حماية السلم الأهلي، تحصين العيش المشترك، ترسيخ الإنصهار الوطني، شعارات فضفاضة ورنانة لطالما سمعناها بعد إنتهاء الحرب اللبنانية المشؤومة وتوقيع إتفاق الطائف، شعارات ضربوا بها مقومات الدولة وألغوا المؤسسات وحكموا لعقود في ظل ما أطلقوا عليه حكومات الوفاق الوطني، وهي بصريح العبارة نفاق وطني، وعند كل منعطف كان ينقسم الشارع أفقيا وعاموديا، ومهما كانت الأزمة الإقتصادية والمعيشية خانقة فإن العصب الطائفي والمذهبي كان المعضلة فهو العنصر الأساسي لأي تحرك.
ومن المضحك المبكي أن يستخدم البعض عبارات "عناصر مندسة" لتبرير الشحن المذهبي والإشتباكات بالحجارة والأسهم النارية بعد كل تحرك إحتجاجي، وطبعا القوى الأمنية تقف حائرة بين حماية نفسها وضبط الوضع من الفلتان والتصدي لأعمال الشغب. وفي المقلب الآخر تتعالى صيحات الإستهجان والتحذير والتنبيه من الإنفجار المدمر، صيحات القوى السياسية في البلاد، ويبقى السؤال البديهي من هم المتظاهرون، وكيف أتوا، ومن وراءهم، وتكثر التحليلات من قبل المحللين الإستراتيجيين على قنوات التلفزة ومن قبل الوسائل الإعلامية.
لا يا سادة يا كرام، كفاكم تلطي خلف الإصبع، كفاكم وضع الرأس في الرمل كما تفعل النعامة ويبقى جسمها ظاهرا للعيان، كفاكم كذبا وتدجيلا، هؤلاء الشبان الذين وتروا الأجواء بشعاراتهم لم يأتوا من المريخ، ولم يحرضهم الزعيم للنزول إلى الشارع، بل أتوا من منازلهم وبيئتهم التي تربوا وترعرعوا فيها، أتوا متلقين أحداث تاريخية مر على بعضها عشرات السنين وعلى بعضها الآخر مئات السنين، فكل فرد في لبنان يعلم تمام المعرفة عما حدث عبر التاريخ لأبناء ملته، ولا ينسى أي فرد تفاصيل الصراعات التاريخية التي مرت وهي راسخة في ذهنه ويتم تناقلها من جيل إلى جيل، لذلك أصبح المواطن ينتمي لمذهبه وطائفته وليس لوطنه، أصبح أسيرا للماضي العقيم بمجمله.
وبطبيعة الحال الدولة بمكوناتها لم تسع يوما لجذب المواطن نحو الدولة بدلا من ملته، إذ أن مرجعية المواطن لم تكن يوما دولته، بل قيادات مذهبه وطائفته، أما القوانين فكان يتم القفز فوقها وفق الواسطات والمحسوبيات، لو كانت هنالك قوانين تطبق بحذافيرها في لبنان وتحت سقف واحد لشعر اللبناني أنه ينتمي إلى وطن.
إن إلغاء الطائفية في النفوس قبل النصوص هو صلب الموضوع ولطالما بقيت النفوس مشحونة لن يستقيم الوضع، وما جرى بالأمس القريب وما جرى قبله وما سيجري لاحقا سيبقى على نفس المنوال، ومهما علت اصوات العلمانيين من هنا ومن هناك فلن يتغير الوضع مطلقا، لأن التربية المنزلية للأغلبية الساحقة هي من منطلق البيئة المنتمون لها.
لا بد من مصارحة حقيقية بين اللبنانيين، لا بد من وضع أسس لبناء دولة، وذلك لن يتم إذا بقي كل طرف يعتبر نفسه هو الأسلم والأصح أو الأقوى، الإلغاء أمر مستحيل والتطويع أمر مستحيل، وحده الحوار البناء المنطلق من المصارحة الحقيقية وكشف الأوراق دون رفع شعارات رنانة وفضفاضة هو الحل، كل المذاهب والطوائف خائفة على حالها وخائفة من بعضها البعض، وذلك بالأساس عائد لغياب منطق الدولة ومفهوم المواطنية. لا بد من كسر الخوف على المصير لمجموع الملل والطوائف من خلال حق المشاركة والمواطنة في بناء الدولة، الحل لم يأت بالثنائية وبالطبع لن ياتي بالمثالثة ولا بالمرابعة، الحل بتربية الأجيال على مفهوم المواطنة، الحل وحده بالإعتراف بالآخر، الحل بتقبل الآخر، الحل بإحترام تاريخ الآخر، الحل بعدم التخوين ولا بتحليل الدم، الحل بالحوار البناء حيث حرية المعتقد، فالدين لله والوطن للجميع، وتبقى العبرة لمن إعتبر.
*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية
*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".