Advertise here

مقاربة السياسة الأميركية حيال لبنان المنكوب

06 حزيران 2020 13:02:46

لبنان يبقى ضحية بامتياز لمحيطه الجيوسياسي، ونظراً لربطه عملياً بالمحور الإيراني يجد نفسه اليوم معزولاً عن إطاره العربي وتحت الضغط الأميركي من دون قدرة فرنسا، عرّابته التاريخية، على نجدته.

يجد لبنان نفسه في الذكرى المئوية الأولى لولادة كيان “لبنان الكبير” أمام تحديات جمّة تصل إلى حد التهديد الوجودي. وتتجه الأنظار إلى واشنطن نظراً لدورها وموقفها إزاء العديد من الملفات المطروحة حالياً: تطبيق قانون قيصر الأميركي المستهدف للنظام السوري وحلفائه والمتعاملين معه، التمديد لقوة حفظ السلام الدولية “اليونيفيل” في جنوب لبنان والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. ويهدف الضغط الأميركي لمنع ربط لبنان النهائي بعجلة المحور الإيراني – السوري ويضاف للعقوبات المفروضة على حزب الله ولأولويات واشنطن في التركيز على الجيش اللبناني والمصرف المركزي، كي تضمن حفظ مصالحها في سياق سياستها الإقليمية ونظرتها لأهمية الحفاظ على مؤسسات تحمي ما تبقى من دولة لبنانية على شفير التحول إلى دولة فاشلة. بيد أن نجاعة المقاربة الأميركية للوضع اللبناني غير مضمونة تبعاً لتعقيداته وارتباطه بصراعات الإقليم ومجمل مصالح متضاربة. لكن من دون شك تبقى الولايات المتحدة من كبار اللاعبين المؤثرين في مستقبل بلاد الأرز.

تعود العلاقات الأميركية – اللبنانية إلى القرن التاسع عشر إذ أنشأت الولايات المتحدة أول حضور دبلوماسي لها في بيروت في العام 1833 مع تعيين وكيل قنصلي. وعلى مدى ذاك القرن، تركز النشاط الأميركي في لبنان على النشاطات الدينية (التبشير البروتستانتي والإنجيلي) والتعليمية والأدبية، مع تأسيس ما أصبح يعرف اليوم بالجامعة اللبنانية الأميركية في العام 1835، والجامعة الأميركية في بيروت في العام 1866 التي قامت بتخريج النخب العربية وكانت ملتقاها الذي أسهم بنشأة حركات فكرية متعددة المشارب. وبدأ الاهتمام السياسي الفعلي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أرسل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في 1919، لجنة هنري كينغ – تشارلز كرين، إلى الشرق الأوسط في إطار محاولات رسم مستقبل لها إبان سقوط الخلافة العثمانية، وكانت مهمتهما هي مسح المنطقة في إطار سياسات ويلسون وإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها ورسم حدود واضحة لدولها. في ما يخص المسألة السورية – اللبنانية، أسفر الاستطلاع عن رغبة الأكثرية تأسيس سوريا موحّدة، مع مطالبة بإقامة “لبنان مستقل كبير” – يماثل تقريبًا لبنان اليوم – ليكون وطنًا آمناً للمسيحيين.

 وكان الاقتراح الأميركي حينها منح لبنان، في إطار سوريا، قدرًا كبيرًا من الحكم دون منحه استقلالًا كاملًا، ولكن الغلبة الفرنسية – البريطانية في تلك الحقبة حسمت الأمر لصالح إقامة “لبنان الكبير المستقل”. وربما كان لهذا التجاذب في مرحلة غابرة أثره على هنري كيسينجر الذي قال يوماً “لبنان خطأ تاريخي”.

وعلى مر السنين انغمست واشنطن في الشأن اللبناني بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي إثر التراجع الأوروبي في الشرق الأوسط بعد حرب السويس ( 1956) وتجلى ذلك مع تدخل القوات الأميركية في لبنان صيف العام 1958 بعد الانقلاب الذي أطاح بالملكية في العراق، وكان الهدف ضمان عدم ضم لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة (سوريا – مصر) برئاسة جمال عبدالناصر.

وهكذا في حلول أواخر الستينات، كانت السفارة في بيروت واحدة من أكبر السفارات في الشرق الأوسط، حيث كانت تعمل كمقر إقليمي لمجموعة من الوكالات الأميركية، وحينما كانت بيروت من أبرز المسارح الخفية لحروب المخابرات خلال الحرب الباردة. وبعدها أتت حروب لبنان المتعددة والنقالة (1975-1990) لتطال المصالح الأميركية مع اغتيالات وتفجيرات في 1976 و1983 و1984 (خلال حقبة السيطرة الفلسطينية على غرب بيروت لم يتم التعرض للسفارة الأميركية، ومع بدء الصعود الإيراني وتأسيس حزب الله بدأ استهداف الوجود الأميركي في لبنان). وبعد إغلاق السفارة الأميركية في بيروت عام 1989، لم يتم استئناف النشاط إلا في 1997 وحاليا من اللافت للنظر أنه على ضوء توسيع التعاون العسكري الثنائي، زاد على مدى السنوات الأخيرة (منذ انسحاب القوات السورية من لبنان في 26 أبريل 2005) حجم ونطاق مكتب الملحق العسكري الأميركي ومكتب التعاون الدفاعي.

بالرغم من الهبوط والصعود في الانخراط الأميركي في لبنان، لا يمكن الحديث عن “سياسة لبنانية” لواشنطن، لأن الأولوية للإستراتيجية الإقليمية وتندرج بيروت غالباً ضمن تفاصيلها أو إحدى رافعاتها. ولذا يمكن اعتبار الاهتمام الحالي لتصفية الحساب مع الذين تعرضوا للوجود الأميركي في لبنان. لكن التركيز يبقى على النظرة الأميركية لحماية أمن إسرائيل وأيضا لمحاربة إيران في اشتباك يمتد من موقعه الأمامي في العراق إلى الحلقة اللبنانية الأساسية بالنسبة لمستقبل الوضع السوري. ومن هنا لا تهتم واشنطن حصرا بمصير لبنان في حد ذاته، بل تتعامل معه كجزء من ملفات أكثر شمولية وتمسك بالكثير من الأوراق لإخراجه من مأزقه الاقتصادي والوجودي.

يخشى الفريق المسيطر على الحكم في لبنان (التيار العوني وحزب الله) من تراكم تطبيقات قانون قيصر (الذي سيدخل حيز التنفيذ في 17 يونيو الحالي) والعقوبات الأميركية على حزب الله في تفاقم الضائقة الاقتصادية ومنع تطبيق خيار “السوق المشرقية” كبديل عن انتظار التفاوض مع صندوق النقد الدولي الخاضع عملياً للنفوذ الأميركي. ويزداد حذر المترددين اللبنانيين في الرقص على الحبال بين المحور الإيراني وباريس وواشنطن لأن الفريق الأميركي المولج بالشأن اللبناني والمؤلف من ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية ومارشال بيلنغسلي مساعد وزير الخزانة ودوروثي شيا السفيرة في بيروت، يصنف في خانة التشدد على عكس الفريق السابق مع السفراء ديفيد ساترفيلد وديفيد هيل الذي كان يحاول مراعاة الحكم اللبناني وعدم إحراجه. وفي هذا الإطار تلوح واشنطن بعقوبات إضافية يمكن أن تطال بعض الرموز والشخصيات اللبنانية المتحالفة مع حزب الله أو المتعاملة اقتصادياً مع النظام السوري (يمثل ذلك قطعاً للطريق على أي تطلع للمشاركة في إعادة الاعمار في سوريا قبل التوصل إلى حل سياسي). ويمثل اقتراح تعديل صلاحيات اليونيفيل عامل ضغط إضافيا لأنه حسب قراءة واشنطن جرى تخصيص 12 مليار دولار لقوات لم تطبق مهامها بسبب رفض حزب الله وبالرغم من تعويل الحكومة اللبنانية على الفيتو الروسي والتفهم الفرنسي لمنع مرور الاقتراح على مجلس الأمن الدولي. لكن مجرد إيقاف واشنطن لمساهمتها المالية في اليونيفيل يعني نكسة جديدة وتحذيراً للبنان.

وعلى نفس المنوال تمسك واشنطن بورقة الوساطة لترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان خاصة بعد عدم وجود غاز تجاري في البلوك رقم 4 قبالة البترون شمال لبنان والتعويل اللبناني على البلوك 9 الذي يتنازع عليه مع إسرائيل. ومن الواضح أن لحزب الله كلمته في هذه الملفات وأن واشنطن تريد من السلطات اللبنانية فك ارتباطها معه وهذا غير وارد عمليا مما يعمق المأزق اللبناني. وتصل بعض الأوساط للافتراض أن الكثير من الملفات يرتبط بتفكيك حزب الله لشبكة صواريخه الدقيقة التي تعتبرها إسرائيل تهديداً مباشراً. لكن يستبعد أن تثمر هذه الضغوط إلا في حال حصول انقلاب في ميزان القوى الإقليمي.

يبقى لبنان ضحية بامتياز لمحيطه الجيوسياسي، ونظراً لربطه عملياً بالمحور الإيراني يجد نفسه اليوم معزولاً عن إطاره العربي وتحت الضغط الأميركي من دون قدرة فرنسا، عرّابته التاريخية، على نجدته برغم استمرار علاقتها مع إيران.