Advertise here

ضياع العام

02 حزيران 2020 19:29:42

ضاع العام المدرسي. ضاع العام الجامعي. ضاعت الإدارات. ضاعت الوزارات. ضاعت الرئاسات. ضاع الجيل. ضاع الشعب. ضاعت الأرض. ضاع الوطن. ضاع لبنان.

لا أعرف بلداً في العالم ضاعَ كما ضاع بلدنا. ننام على ضياع. ونستيقظ على ضياع. نمشي ونحن ضياع.

غدر بنا التيه اللبناني الذي جعل كلاً منا تياهاً. جعلنا التيه الذي عشناه بعد قرنٍ من الزمن في الدرك الأسفل فجأةً، بالحرب الناعمة هذه المرة.

ما احتاج اللبنانيون إلى مثل الحروب السابقة التي مرّت بنا. ما احتاج اللبنانيون إلى مثل الأحلاف السابقة التي استهدفتنا.

ما احتاج اللبنانيون إلى الحروب الطائفية، ولا إلى الحروب المناطقية، ولا إلى الحروب الإقليمية، ولا الحروب العالمية.

فَقدَ لبنان قيمته فضاع كما تضيع ورقةٌ نقدية فقدتْ قيمتها. ضاعَ كما ضاعت ورقة جفت، فسقطت من الغصن. فقدَ لبنان دوره بين الأمم. فقدَ لبنان دوره بين العرب. فقدَ لبنان دوره بين الشرق والغرب، فضاعَ كما يضيع الرجل. فقدَ قيمته في عائلته، وفي قريته، وفي بلدته، وفي وطنه. وهذا أصعب أنواع الضياع على الرجل، ومثله على الوطن الذي صار بلا دور.

ماذا تفعل العاصمة حين تضيّع دورها. فقط تموت. تموت فقط. ماذا تفعل القرية، أو البلدة، حين تفقد دورها. كمقبرةٍ منسية، لأجيال. فقط تموت. كحقلٍ مهجور. تصبح مثل مدينة عنجر، منَ الذكريات. إنها كانت مدينة الأمويين على برّ الشام. وإنها كانت مربض القوافل، بين البحر والبادية.

تصبح مثل بعلبك. هياكل من عظم. تبكي حين تراها، كما تبكي حين ترى هيكلاً لديناصور جفّ به الزمن. تصبح مثل مدينة طرابلس، شعباً بلا قوت. تصبح مثل صيدا وصور، شعباً ينتظر أن يموت.

لا وقت لإضاعة الوقت، بعد أن ضاع الوقت. بعد أن ضاعت المدرسة، وضاع العام المدرسي، وبعد أن ضاعت الجامعة، والعام الجامعي.

لا وقت لإضاعة الوقت، بعد أن ضاعت المستشفيات، والمحطات. وبعد أن تبلبلت الأسواق، وضاع سوق النقد.

كان لبنان تياهاً. رأسه في المكمل، وقدماه في البحر. وجهه الجبل، وأجنحته السهول، ورئتاه الأنسام والأنهار.

فسدَ لبنان، مثل السمكة، فسدَ رأسها، ففسدت كلها دفعة واحدة. ولم يأسف أحدٌ عليها، فماتت مرتين.

صارت دول العالم تتحدث عن فسادٍ في لبنان تُضرب به الأمثال. صارت دول العالم، تتحدث عن فسادٍ في الإدارات، وفسادٍ في المناقصات، وفسادٍ في القرارات، وفسادٍ في الحكومات. 

صار الوقت ضيّقاً للغاية على الإصلاح. صار الوقت ضيقاً للغاية على التغيير. صار الوقت ريحاً منتنة، تفوح من معامل النفايات، ومن مراكز القرارات، ومن مجالس الحكومات.

ضاع البلد. حقاً ضاع.  ضاع الجيل الذي نراهنُ على شبابه. وضاع الكتاب، والجريدة، والإذاعة والشاشة. ضاعت المطبعة. ضاعت الأسواق. ضاع النهر، والسهل، والجبل. ضاعت المدن، ضاعت الأجيال.

انظروا اليوم، قبل الغد، إلى لبنان. كلّ مَن عليه فان.

وطنٌ بعد قرنٍ من الزمان، يحتاج من اليوم إلى قرنٍ آخر من الزمان. وهيهات هيهات، أن يعود كما كان.

ضياع العام، نذيرٌ بضياع القرن القادم كله. ولهذا تعظم مأساة لبنان.

لم يعد السؤال، كيف يصمد اللبنانيون. بل كيف يهاجرون، وإلى أين يهاجرون. 

لم يكن ذلك "الحديث الرئيس"، حديثاً عابراً للوقت حين تحدّث به الرئيس. كان حقاً حديثاً عابراً للعظم. ناخراً للعظم.

كان حديث دوائر القصر، وكان حديث دوائر العصر. وكان حديث الدوائر على كل المنابر، وفي كل مصر.
 ما كان أهون على لبنان لو مات كما يموت الرجال. ما أهون على لبنان، لو ضاع، كما يضيع التنين في البحر. لو ضاع كما يضيع بلدٌ في الحرب.

بلدٌ أضاعه أهله في الجب، وناحوا عليه. ثم غدوا، ينحبون فوقه، والعالم شهود، كما القتلة، على ضحيّتهم.

بلدٌ أضاعه أهله في المزادات. قايضوا عليه. قايضوا على مكتبٍ للعمالات، ودفترٍ للعمولات. وقصورٍ للرئاسات. ثم راحوا ينوحون عليه بعد فوات الأوان. 

ضياع العام، نذير شؤم بحكام. نذير شؤم بحكامِ لبنان، وليس أمام الشعب، إلا "الصبر على مجامر الكرام".


* أستاذ في الجامعة اللبنانية

*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".