في عام 1935 دعا الملك غازي، ملك العراق، طفلاً من مدينة نابلس لا يتجاوز عمره الـ 11 عاماً لزيارة بغداد، والإقامة فيها، والغناء في مدارسها ومسارحها. لبّى الطفل الدعوة، وما كان يعلم أن مصائره كافةً ستنعقد بهذه المدينة حتى الممات.
وكان أحد أفراد حاشية الملك قد شاهد على الصفحة الأولى من جريدة فلسطين اليومية، صورةً للصبي الفنان روحي خماش وهو بعمر 8 سنين محتضناً العود، ومكتوب تحتها "هذا الفتى النجيب أحيى حفلاً بديعاً في "جمعية الشبان المسلمين في حيفا"، ولقد أبدع في تقليد الأستاذ عبد الوهاب، والآنسة أم كلثوم، مما يبشر بمستقبلٍ باهرٍ له في عالم الغناء.
وبعدها بعامين قرأ الرجل خبراً يقول إن الطفل الفنان روحي خماش قد عزف وغنّى أمام عبد الوهاب لدى زيارته لفلسطين، ثم أمام أم كلثوم بعد إحيائها حفلاً على مسرح "مقهى أبو شاكوش" في يافا، فنال استحسانهما وتشجيعهما، وحظيَ بهديةٍ رمزية من عبد الوهاب، وقبلة من أم كلثوم.
أقام الطفل الفنان في بغداد تحت رعاية ملكية مدة 6 أشهر غنّى خلالها في العديد من الحفلات، وعاد يحمل معه هديةً ثمينة هي ساعة الملك شخصياً كعربون تقدير ومحبة.
عاد الطفل الفنان من بغداد ليغني ويعزف في إذاعة "هنا القدس" التي أُنشأت حديثاً، وظلّ فيها إلى أن حلّت النكبة فاتّجه إلى العراق مجدداً، ووجد فيها ضالته الموسيقية المنشودة، فلعب دوراً كبيراً في تطوير الموسيقى العراقية والحفاظ عليها.
قام خماش بتأسيس فِرقِ فنّية أسهمت بدورٍ كبير في حفظ التراث الفني وتطويره، مثل فرقة الموشّحات في عام 1948، والتي تحوّل اسمها إلى فرقة أبناء دجلة، وكذلك أسّس فرقة الإنشاد العراقية، وفرقة خماسي بغداد التي طافت العالم، وحصدت جوائز عالمية.
ولقد ظلّ هو شخصياً موضع احترام وتقدير العراقيين فنانين ونقاداً وطلاب موسيقى وعارفين بالألحان، وظل الفضل منسوباً إليه في إضافة وترٍ سابع لآلة العود.
درّس خماش مادة العود لسنواتٍ طويلة في معهد الفنون الجميلة ببغداد، ووضع ألحان ثلاثين موشحاً، وسبعة ابتهالات دينية، وثمانية أناشيد وطنية، وألّف العديد من المقطوعات الموسيقية.
يعجبني كثيراً سماع الأغاني العراقية القديمة التي أعادت فرقة الإنشاد العراقية تسجيلها تحت إشراف خماش، وذلك رغم أنني أنزعج غاية الانزعاج من الفنانين الذين يعيدون تسجيل أغاني زملائهم.
ظلّ روحي خماش في بغداد إلى أن توفاه الله عام 1998. وظلّ العراقيون يذكرونه لسنواتٍ طوال فلقد ارتبط صوم رمضان لديهم بسماع ابتهالات "يا اله الكون"، و"لبّيك قد لبّيت لك" و" فالق الإصباح" التي لحّنها الخماش.
كتبَ صديقنا الشاعر والصحفي هشام عودة كتاباً تحت عنوان "الموسيقار روحي الخماش: سيرة وإنجازات”، رصد خلاله أهم المراحل في الخمسين عاماً التي قضاها الموسيقار في بغداد.
وكتب الأستاذ العراقي حبيب ظاهر العباس كتاباً بعنوان "الموسيقار روحي الخماش وتأثيره في الموسيقى العراقية"، رصد فيه أبرز إنجازات هذا الموسيقار على صعيد تدريس الموسيقى، وتدريب وتشكيل الفرق، وتلحين الموشّحات وتاليف القطع الموسيقية.
وقام الصديق نادر جلال، مدير المؤسّسة الفلسطينية للتنمية الثقافية "نوى" بتجميع أجزاء مهمّة من موشّحات ومقطوعات الخماش حيث قدّمتها الفرقة الموسيقية للمؤسّسة، وأصدرتها على أسطوانة أولى من مشروعها المعَنون "هنا القدس"، والهادف إلى توثيق وأرشفة تراثنا الموسيقي قبل النكبة.