جملة قضايا عادت لتعيق انخراط النظام السوري على المستويين العربي والدولي، وذلك رغم ملامح انفتاح كانت ظهرت عقب زيارة الرئيس السوداني عمر البشير لدمشق. فقد تلقى نظام الأسد، خلال الأسبوعين الأخيرين، خيبتين، واحدة في قمة بيروت الإقتصادية التي رفضت تَبَنّي نظرية حليفه الرئيس اللبناني ميشال عون بفصل عودة اللاجئين عن الحل السياسي، والثانية بإضافة تركيا لموضوع اللاجئين كأساس في تبريرها لإقامة المنطقة العازلة في الشمال السوري إضافة إلى الهاجس الأمني.
بالتوازي فقد برز الحراك المصري والعربي بتأجيل فكرة العمل على إعادة سورية إلى الجامعة العربية وربطها بالتقدم باتجاه الحل السياسي، وكان سبق ذلك التأكيد المستمر للدول الغربية بربط إعادة الإعمار في سورية بهذا الحل مع تصاعد وتيرة العقوبات الأميركية على النظام. وبالتالي فتسويق روسيا لأهلية نظام الأسد لمجرّد فرض سيطرته في الداخل لم يعد شرطاً كافياً للتعامل معه كأمر واقع ولا يزال يصطدم بكثير من العقبات. ولا يبدو النظام مستعجلاً على معالجة القضايا الرئيسية إذ لا يشعر أنه يرزح تحت الضغط إلّا من قبل حلفائه الروس الذين يرغبون بالإيحاء، من وقت لآخر، بأنهم يقدّمون إنجازات على المسار السياسي. وربما تطغى نظرية الانتهاء من الملف الأمني في كل سورية قبل الشروع جدياً في الحل السياسي مع حملة سَوْق المجندين إلى الجيش وتكثيف الروس لتشكيل الفرق الموالية لهم وتوسّع الفجوة بين الحلفاء الروس والإيرانيين والتسابق الذي يجري بينهم على الأرض. طبعاً علّ ذلك يعطي الأسد الحجة في الوصول إلى لحظة إعادة انتخابه في ظل ظروف أمنية غير ناضجة لمثل هكذا انتخابات لكي يكرّر المسرحية ذاتها التي أجراها عام 2014.
وفي ظل تعقّد الظروف والأوضاع في الشمال والشرق، بدا النظام ومن خلفه الروس غير جاهزين لفتح نقاش جدي يطال القضايا الجوهرية مع الأكراد، مفوّتين على أنفسهم الفرصة في التقاط اللحظة التي بدا فيها الأكراد بحاجة إلى محفزات سياسية تقوي موقفهم العام. وافتراض أن ينطلق الحوار مع الأكراد وفقاً لمقاربة سياسية تكون جزءاً من تصوّر شامل للحل في سورية ناقضه تطلّع النظام إلى الجانب الأمني الذي يهدف إلى بسط السيطرة الميدانية والحيازة على الموارد الاقتصادية في شرق الفرات فقط.
وتجاهُل الأسد للبُعد السياسي في ملف إعادة اللاجئين، إضافة إلى اتخاذه إجراءات قانونية تكفل بقاؤهم خارج سورية، وتحويلهم إلى مادة لابتزاز الغرب ودول الجوار، كل ذلك بدأ ينقلب على طموحه في ترجمة التقدم العسكري الذي حققه في الداخل إلى مكاسب مُستدامة. فحيث فشلت الدبلوماسية الروسية في دفع الغرب لتمويل إعادة الإعمار كشرط لتسهيل عودة اللاجئين وبعد انقضاء نصف عام على المبادرة التي أطلقها الروس بعد قمة هلسنكي أصبح من الواضح لكل الهيئات الدولية أن العقبة أمام عودة حوالي 12 مليون لاجئ ونازح من داخل سورية وخارجها إلى ديارهم هو بقاء الأسد ونظامه على رأس الدولة، وأن العودة تستحيل في ظل غياب الحل السياسي والضمانات الأمنية والسياسية الكافية.
وكما تفرّد الروس بالمبادرة حول إعادة اللاجئين كذلك يشرعون في الحوار مع تركيا حول الترتيبات في الشمال من دون أن يكون للأسد الرأي الأساسي في ذلك.
ينطلق الروس في فكرة إعادة إحياء اتفاق أضنة من الاعتراف بالحاجات الأمنية لتركيا في الشمال السوري، وهذه نقطة البداية التي تعزز رغبة تركيا في تبرير مطامعها، إضافة إلى هاجس لا يمكن للروس إلّا الإقرار به ويتعلّق بوجود 3 ملايين لاجئ سوري على أراضيها لن يعودوا إلى سورية بلا حل سياسي للأزمة. فالمنطة العازلة التي يعمل أردوغان على انتزاعها بدعم أميركي واعتراف روسي ستشكّل عنوان المفاوضات الجارية في هذه المرحلة، لكن ذلك لا يمثل إلا جزء من طموح أردوغان في استثمار الغياب العربي إلى الحد الأقصى والاستفراد بالأكراد بعدما أهداه ترامب هذه الأفضلية.
طبعاً تركيا تواجه ظروف دقيقة تدفعها لرسم استراتيجية غير تقليدية في سورية لا تتردّد معها في استعمال القوة العسكرية، وهي أيضاً تقف أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة دورها الإقليمي انطلاقاً من شمال سورية. وهذا لا ينفصل عن الإتجاهات الداخلية التي تعيشها تركيا هذه الأيام، إذ تتعرّض انجازات مصطفى كمال أتاتورك الوطنية لحملة انتقاد واسعة وهو الذي قدم للأتراك انتصاراً في “اتفاقية لوزان” 1923 بأن أخرجهم من خسائر “معاهدة سيفر” التي فككت الإمبراطورية العثمانية. وأردوغان الذي يعيش عقدة التمايز عن أتاتورك ويأخذ عليه تركه السيادة لليونان على الجزر المتاخمة للأراضي التركية في بحر إيجه وتخليه عن كثير من المكتسبات العثمانية لن يألُ جهداً كي يقضم مزيد من الأراضي في سورية بعدما تهيأت له كل هذه الظروف. خاصة وأن مناسبة انقضاء مئة عام على معاهدة لوزان بعد 4 سنوات سيمنح الأتراك محفزات جيوسياسية إضافية تحسّن موقفهم الاستراتيجي إذ تستعيد تركيا الحق في الاستفادة من المعابر البحرية ومن الثروات النفطية في تلك المناطق، والتحضّر لكل ذلك لا بد أن يدفع بالأتراك إلى التحوّل لقوة كبيرة لها تمايزها في الأطلسي، خاصة وأن أردوغان حسم التوجه العام لتركيا في الإتجاه شرقاً. أضف إلى أن أكبر باحث وحريص على ترتيب جديد وملائم للممرات المائية مع تركيا ستكون روسيا.!
إذاً لتركيا نصيب في الشمال السوري يتحدّد تبعاً لتوازنات القوى الإقليمية التي تحتل صدارتها حالياً، وروسيا مستعدة لشرعنة حدود هذا النصيب انطلاقاً من اتفاق أضنة. والأكراد لديهم الحماية الكافية لكي يكونوا موضوعاً لترتيب شرطه الأساسي أن لا يُعيدهم إلى أحضان النظام كما كانوا سابقاً مواطنين بلا هويات. والأسد أمام هذا الواقع المُركّب لا يرى المشهد إلّا من زاوية انتصاره على بعض المعارضة المُعتدلة التي وقعت فريسة التواطؤ عليها في لعبة المصالح بين الدول.
اعتراف روسيا بامتيازات لتركيا في الشمال وتأكيد القادة الروسي لاحترامهم مصالح إسرائيل الأمنية في الجنوب، هذان الموقفان يفتحان على سورية ملف امتيازات الدول الإقليمية المحيطة بها، وهذا الأمر قد لا ينفع معه التوازن الردعي الذي تسعى إيران لإقامته في سورية والذي يُعزّز معادلة مُركّبة لكنها في الواقع غير مُستقرّة، وعاجزة عن استعادة وحدة المشهد في سورية، ولا تستطيع روسيا إأن تُعيد تركيب الجغرافيا والديموغرافيا في سورية وتجميعها إلا بتعزيز استقرار المعادلة الداخلية وفقاً لصيغة الحل السياسي ولغطاء الشرعية الدولية.