Advertise here

البطالة والفقر تحديات النظام العالمي قبل وبعد "كورونا"

02 أيار 2020 13:01:12

أرست تضحيات العمّال في الأول من أيار عام 1886، في شيكاغو، قواعدَ ومفاهيمَ جديدة لحركة التاريخ، ولنضال العمّال والكادحين، وتزامنت مع المئوية الأولى لأحداث الثورة الفرنسية 1789. وشكّل ذلك محطةً أساسية في استمرار حركة التغيير الاجتماعي من أجل الحرية، والعدالة، والمشاركة، وتثبيت حقوق العمّال في التظاهر، وتنظيم ساعات العمل، وتأسيس الجمعيات والنقابات، والحق بالضمان الاجتماعي والصحي، ونظام التقاعد. هذا اليوم بات عيداً عالمياً، ومحطةً سنوية يجدّد فيها العمال في العالم تضامنهم، واستمرارهم في النضال من أجل عالمٍ أفضل.

الأول من أيار 1949، وبعد ما أن أرخت الحربان العالميّتان الأولى والثانية أوزارهما، ورسا العالم على توازنات قطبية جديدة، لم يرَ المعلّم الشهيد، كمال جنبلاط، أنها سوف تؤسّس لقيام نظامٍ عالميٍ إنساني عادل تسود فيه الطمأنينة الاجتماعية. ورأى أن التسوية التي قامت عليها تلك التوازنات سوف، "تحوّل العالم إلى سوقٍ استهلاكي"، و"ساحةٍ لصراع الأيديولوجيات، الرأسمالية منها والكليّة"، وأنها لا تتماشى وطموحات الأجيال الجديدة، ولا تتناغم وحركة التغيير والتقدّم، فارتأى وكوكبةٌ من رفاقه المفكّرين، والمناضلين، والأعلام - جورج فيلبيدس، وجان نفاع، وفؤاد رزق، وألبير أديب، وعبد الله العلايلي، وفريد جبران، وجميل صوايا - أن يكون ذلك اليوم الذي يحتفل فيه عمّال العالم بعيدهم، محطةً جديدة لتأكيد التلاحم الإنساني بين العمّال والكادحين والمفكرين، وموعداً لانطلاق مسيرة نضالٍ جديدة تؤكّد انحيازها، وارتباطها بقوى التغيير في العالم، وتتلاقى مع حركةِ ونضال العمّال والكادحين من أجل مواطنٍ حر وشعبٍ سعيد. فكان الحزب التقدمي الاشتراكي، وكانت مسيرة النضال التقدمي من أجل الإنسان، حيث ورد في خبر التأسيس أن، "الحزب التقدمي الاشتراكي يستهدف إيجاد حلٍ نهائيٍ وتطبيقيٍ لمشكلة العمّال وأرباب العمل، يتفق مع فكرة الأخوة، والعدالة البشرية، وأن الحزب سيتمسّك بتنفيذ مبادئه الاجتماعية والاقتصادية على إطلاقها".

وغاية الحزب التقدمي الاشتراكي، "السعي بجميع الوسائل المشروعة لبناءِ مجتمعٍ على أساس الديمقراطية الصحيحة، تسودُ فيه الطمأنينة الاجتماعية، والعدل، والرخاء، والحرية، والسلم، ويؤمّن حقوق الإنسان التي أقرّتها الأمم المتحدة".
الحزب تقدميٌّ باعتبار أنه، "يتبنّى إنتاج العلم والتطور، ومتتبعاته العمليّة في جميع الحقول. والاشتراكية في الحزب هي نتيجة لتبنّيه فكرة التطور على إطلاقه، وبالتالي أخذِه بنظرة شاملة ووضعيَّة في الحياة، وفي الوجود، على ضوءِ الاختبار الإنساني، وعلى ضوءِ العلم – وهي نظرة قابلةٌ للتحسين، ولتبديل التفاصيل، وبالتالي متسعة لكل محاولةٍ تطويريّة وبنّاءَة.
والاشتراكية في الحزب تهدف، من الوجهة العلمية، إلى التوفيق بين أحوال الجماعة التقنية والديموغرافية، والناجمة عن تطوّر العلم وتطبيقه، وتأثيره في المجتمع، وعن اختراع وتعميم الآلة، وانتشار الصناعة الحديثة من جهة، وبين الأنظمة الحقوقية والاجتماعية القائمة من جهةٍ أخرى".

لقد نجح الحزب، وما زال، في إطلاق مسيرة نضالٍ وطنيةٍ وعربيةٍ وإنسانية، تلاقت وقوى التحرّر والتغيير في العالم، كما قدّم الكثير من التضحيات دفاعاً عن مبادئه وقناعاته، ودفاعاً عن حق الإنسانية بحياةٍ كريمة، بما فيها القضية الفلسطينية، التي لا تزال تشكّل واحدةً من أهم القضايا الإنسانية العادلة.

لقد شغَل الحزب، ومنذ تأسيسه، حيّزاً كبيراً من الاهتمام الدولي السياسي، والإعلامي، والفكري، وقدّم العديد من الملاحظات، والآراء، والبرامج، والمشاريع الإصلاحية، على المستويات الوطنية والعربية والعالمية. وكان المعلّم الشهيد، كمال جنبلاط، مرجعاً فكرياً موسوعياً، والذي ترصد آراءه وملاحظاته العديد من المحافل الدولية، لا سيّما في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، سيّما وأنّه نبّه من تفكّك الاتحاد السوفياتي، وذلك قبل عشر سنوات من انهياره، مفنّداً في محاضرةٍ له تحت عنوان، "في ما يطوّر ويستكمل الماركسية"، الأخطاء التي وقعت فيها منظومة الدول الاشتراكية- الشيوعية من احتجازٍ للحرية الفردية والاقتصادية (الحق بالملكية الفردية)، كما كان من منتقِدي النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومخاطر انحرافه عن مساره الطبيعي، إذ قال، "لأول مرة منذ التاريخ، برزت حالة من التطوّر لا تخضع لأية شرعية من شرائع الاقتصاد الليبرالي التقليدي ومتناقضاته، هذه الحالة هي: توفّر تتابع النمو، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل بشكلٍ متزايدٍ وخطير، وقيام وضعٍ من التضخّم المالي في آنٍ واحد. وليست المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي يكون فيها العلم الاقتصادي الليبرالي خاطئاً في تقديره، ومخطئاً في وضع سُنَنه". ( تقرير كمال جنبلاط إلى مؤتمر الحزب عام 1971).

إنّ ما حذّر منه الحزب التقدمي الاشتراكي، ورئيسه عام 1971، نتيجة انحراف النظام الاقتصادي العالمي عن مجراه الطبيعي، أكّدته أرقام منظمة العمل الدولية في تقريرها السنوي في شباط 2019، بالنسبة إلى عدد العاطلين عن العمل في العالم في 2018، وحدّدته بـ172 مليون شخص، أي ما نسبته 5 بالمئة (مقارنة بـ5.1 بالمئة في 2017)، ما يعني أن معدّل البطالة قد عاد إلى مستوى ما قبل الأزمة المالية في 2008.

وتوقّعت المنظمة استقرار معدّل البطالة عند 4.9 بالمئة في 2019 و2020، إذا لم يشهد الاقتصاد العالمي "ركوداً كبيراً". لكنّ المنظّمة حذّرت من أن، "توقّعات معدّل البطالة غير مؤكّدة بسبب المخاطر الاقتصادية، والمالية، والجيو- سياسية". وأشارت إلى وجود، "مؤشّرات لتراجع القدرات الاقتصادية العالمية، مثل خفض صندوق النقد الدولي توقّعاته للنمو".
إن معدلات البطالة، التي بيّنها تقرير منظمة العمل الدولية، برزت انعكاساتها السلبية في "مؤشّر الفقر متعدّد الأبعاد لعام 2019"، والذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي بيّن أنه في 101 دولة تمّت دراستها (من بينها 31 دولة بدخلٍ قوميٍ منخفض، و68 بدخلٍ متوسط، و2 بدخلٍ قوميٍ مرتفع) هناك 1.3 مليار شخص يعانون الفقر "متعدّد الأبعاد"، كاشفاً عن أن منطقتَي أفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب آسيا، تحديداً تحتويان على أكبر نسبةٍ من الفقراء في العالم، حوالي 84.5 في المائة.

ويصف التقرير مستوى التباين في الفقر نفسه داخل هاتين المنطقتين، بأنه "هائل"؛ ففي أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، تجد أن نسبة عدم المساواة في دولة جنوب أفريقيا تبلغ 6.3%، بينما تصل في جنوب السودان إلى 91.9%. أما في جزر المالديف، الواقعة في منطقة جنوب آسيا، فتسجّل النسبة 0.8%، مقارنةً بنسبة 55.9% في أفغانستان.

ومن بين 1.3 مليار شخص ممن تم تصنيفهم كفقراء، هناك حسب التقرير حوالي 663 مليوناً من أطفالٍ دون سن الـ 18 عاماً، وحوالي الثلث منهم، أي حوالي 428 مليوناً، هم أطفال دون سن العاشرة.

هذه التقارير المرعبة عن حالة العالم قبل انتشار جائحة كورونا، أصابت إلى الآن ما يزيد عن 3 ملايين نسمة، وقتلت أكثر من 300 ألف شخص، ومن المتوقع أن تزيد من الأعباء الاقتصادية، ومن معدلات البطالة نتيجة تراجع معدلات النمو.
لقد بلغ العالم مرحلةً خطيرة من الأزمات التي تهدّد مستقبل البشرية نتيجة انحراف الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، عن مسارها الإنساني، وابتعاد الإنسان عن الطبيعة والأرض، وجموح العولمة المتوحشة، والشركات الربحية الفاحشة الثراء، نحو الأنانية الجشعة، وحيث جعلت من العالم سوقاً لمنتوجاتها، ومكباً لنفاياتها، وهو ما أدى إلى اختلال النظام البيئي، وتضاعُف حرارة الأرض بفعل الاحتباس الحراري. كل ذلك بات يتطلب إعادة النظر في النُظُم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا بل بات يتطلب ثورةً إنسانية تعيدُ ترتيب العالم وفق قواعد جديدةٍ، وأنظمةٍ متوازنة، تحقّق العدالة الاجتماعية، والحرية، والسلم، والرخاء، وأن يتوقّف السباق الجاري بين الدول العظمى حول تزعُّم العالم.