Advertise here

الليرة اللبنانية بين ترف القلة الحاكمة وبؤس الأكثرية

01 أيار 2020 22:49:26

"إنما أهلكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". حديث شريف

لا معنى لوطنٍ من دون عملةٍ وطنية تضمن لمواطنيه قوت يومهم. والمواطنون لهم الحق في محاسبة السلطة على سياستها الاقتصادية والاجتماعية. إن انفلات النظام المالي اللبناني أنتج نقمةً شعبية واسعة، كون لصوص لبنان، أو ما يعرفون بساسته، عَمدوا إلى بناء نظام ترف القلة وبؤس الأكثرية. وعوضاً عن أن تُسرّع السياسات المالية في عجلة النمو الاقتصادي تسبّبت في ازدياد العجز، وبالتالي انهيار العملة، وتلك علامة واضحة على تدهور الوضع المعيشي.

100 قرش، أو الليرة اللبنانية، لها تاريخها منذ أيام السلطنة العثمانية، مروراً بارتباطها بالفرنك الفرنسي، كما أنها جزءٌ أساسي في صنع استقلال لبنان بعد أن استقلّت عن الفرنك عام 1949م، وقد تأسّس مصرف لبنان عام 1963م، ورسمياً بدأ العمل به بعد عامٍ من ذلك التاريخ. ولم يشهد سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي أي تغيّرات تُذكر، وبقيَت متراوحةً ما بين 3,2 و 3,9 حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م، حيث بدأ تراجع سعر صرف الليرة تدريجياً ليصل ذروته عام 1992م إلى 2,880، مسبّباً بذلك كارثة، حيث فقدَ الكثير من اللبنانين قيمة أموالهم. هذا وقد تأرجحت قيمة الليرة ما بين 1,900و 1,750 في تسعينيات القرن المنصرم لتستقر على 1,500 ليرة مقابل الدولار طيلة السنوات العشرين الماضية.

إن انهيار العملة الوطنية لا بدّ وأن يؤدي إلى الإطاحة بالحاكمين. فإضعاف الحياة المعيشية للّبنانيين الذين يرزحون أصلاً تحت وطأة الاستبداد والاستفراد بالريوع الاقتصادية، وما ترتّب من تدمير لاقتصاديات البلد عبر السرقات المنظّمة، والهدر العشوائي، والتهرّب الضريبي، ناهيكَ عن تهريب الاستثمارات العربية والدعم الدولي نتيجة السياسات الشيطانية، ستكون عواقبه وخيمة.  فحياة الفراغ والبؤس التي تحرم اللبنانيين من كرامتهم كمنتجين، وتنزع من المؤهّلين مهاراتهم في أن يبرعوا، لا يمكنها أن تستمر، رغم الاعتياد المؤلم عليها طيلة العقود الثلاثة الماضية.

لبنان بلدٌ يحوي طاقات إبداعية مذهلة، وما زال ينتظر من يخرجه من زواريبه السياسية العفنة، بعيداً عن التغنّي البغبغائي بشعارات ومبادئ لم يتحقق منها شيء، سوى اتّساع الهوة بين الشعب المعدَم وغالبية الطبقة السياسية المكروهة. وما أعيبه على اللبنانيين تقاعسهم لسنوات عن فرض العدالة الاجتماعية والثورة على الظلم المستشري الذي طالهم، والسماح للطبقة الحاكمة بالتمادي في فساد سياساتها، بالرغم من أن الإنسان اللبناني ذكي وناجح في المبادرات الفردية، والمناظرات الرنّانة، لكنه فشل، أقله إلى الآن، على الصعيد الوطني عن أخذ المبادرة الضرورية لتغيير مجريات الانهيار الاقتصادي لمصلحته. فعوضاً عن محاسبة اللصوص وقطع أيديهم، مازال الكثير من اللبنانيين يتراشقون بالتهم فيما بينهم. 

المعضلة المميتة التي تخنق أي نيةٍ في تحسين الوضع المعيشي هي مركزية التحكّم المتمثلة في بعض الأحزاب والتيارات الفاسدة، وعدم الشفافية في المحاسبة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا بدّ من تطهير النفوس، وعقلية قُطّاع الطرق، والتي اعتادت على مد اليد على المال العام، كما تطهير القوانين من شذوذ بنودها. والأهم هو تطهير السياسات الفردية المتهورة، والتي تربط مصير وطن وشعب بمحاور ونزاعات إقليمية.

لنكن أقوياء وواقعيين بما يكفي لنعترف أن الفساد قد نخرَنا من الداخل، وأننا سقطنا في وحل المشكلات التي لا تُحصى. وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على تآكل ثقافة العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وغياب التربية الوطنية التي تُحبط دكتاتورية التهميش، وضبابية التشريعات اللا-أخلاقية. ولنعلم أن الحل يأتي منّا، من رحم مُعاناتنا، ولا يُستورد من الخارج.  وهنا يجب أن يكون التغيير جذري في قلع كافة الرموز الفاسدة، وعلى رأسها غالبية حاشية العهد وحلفائه، وإبعاد مَن تمّ تجربتهم عن مسرح المناصب الحسّاسة، وهو أمر ليس سهلاً على شعبٍ ذاق، وما زال، يذوق مرارة ضيق العيش، والغلاء الفاحش في الأسعار، أقلّه على المدى المنظور.
  
وليكن معلوماً أن التغيير لا يأتي من الأدنى، بل من الأعلى - السلطات العليا المهترئة - كون اللبنانيين مُكبلين بأصفاد قرارات المسؤولين، بما فيها من تعقيدات القوانين المفروضة وروتينها الممل.  فالبطانة التي تتحكم أصابعها الخفية في إدارة شؤون البلاد والعباد لا تملك الخبرة الإدارية، ولا الحنكة السياسية، في ظل غياب أو تغييب لرؤية استراتيجية تُذكر. وممّا يزيد الطين بِلّة أن تلك البطانة تعمل، وبمداورة، لمصالحها الشخصية. فكلّ مسؤول أمام خيارين، إما أن يدخل في اللعبة، أو يصبح خارج منظومتها، وبالتالي يُسحب من تحت قدميه بساط القرار. والجدير ذكره أن بطانة اللصوص الحاكمة تعمد في كل مرة إلى تضليل الرأي العام، وتنقل صوراً مشوّهة تتخِذ بناءً عليها قراراتٍ مصيرية تودي بها إلى المثوى الأخير.

لا يمكن النأي بالليرة اللبنانية عن أي مشاكل قد تطرأ على الاقتصاد اللبناني. لكن المشكلة تكمن في تمويه العجز المالي الحاصل، ووقوف مسبّبيها مكتوفي الأيدي أمامها، لا وبل التأقلم معها وإجبار اللبنانيين على أن يصبح الانهيار جزءاً من ثقافة السياسة الاقتصادية للبنان.   
 
 إلى أين تذهب الليرة اللبنانية؟ أو بالأصح إلى أين يذهبون بها؟ الجميع مسؤول. الطغمة الحاكمة أولاً، بمسؤوليّتها عن التسبّب بالانهيار الحاصل، والمواطنون ثانياً، برضوخهم لذلك الانهيار. واليوم لا بدّ من أن ننادي بأعلى الأصوات، عسانا نجد آذاناً صاغية، إن كان هنالك من يسمع: "يا بيّ الكل، أمامكَ أمواجٌ عاتية! إلى أين أنت ذاهبٌ بنا، نحن وليرتنا التي تحتضر. حبّذا لو ترحلوا، علّنا ننقذ ما تبقى لعملتنا الوطنية من قيمة".

ولكن لا حياة لمن تنادي، فالطريق إلى جهنّم معبدةٌ بنيّاتهم السيّئة، والمُبيّتة، بجهلهم وتعنّت قراراتهم الضّالة.

 

*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".