Advertise here

كلمة وفاء

26 نيسان 2020 16:54:00 - آخر تحديث: 26 نيسان 2020 17:49:46

قاسيةٌ هي الحياة أمام وداع رفيقٍ مناضل، عاش الحياة مصادقاً الموت والألم... مصارعاً، ناحتاً من الصخر والتعب عيشه ورزقه... عاملاً ملتزماً التقدمية الإشتراكية... بمبادئها وروحيتها... ناشطاً بيئياً... محباً للأرض والطبيعة، مكافحاً عنيداً من أجل انتصار الحياة بعزةٍ، وشرفٍ، ومجد... وأمام الرحيل لا بد من شهادة حق في وجه الحق... أمام رحيل أبناء النضال الذين يرحلون إعلاناً لانتصار الحق، والحرية، والكرامة... أولئك الأبطال الذين لم يبخلوا بأنفسهم يوماً في صراع الحياة.

في غيابك ورحيلك أيها الرفيق الدكتور جبور جبور، لا بدّ من كلمة وفاءٍ في مسيرة كفاحك النبيلة والشاقة. وعذراً إن بحتُ في يوم وداعك عن بعض صفحاتٍ ومواقفَ كانت محفّزة لكَ في مشوار جهادك الكبير في هذه الحياة، حيث حدّثتني يوماً عن معاناتك، وبفخر، في الجامعة اللبنانية التي احتضنتنا معاً لفترة طويلة، وتشاركنا فيها الهموم والمتاعب، ويوميات النضال العلمي، والنقابي، والبحثي، من أجل جامعةٍ وطنية قادرةٍ وفاعلةٍ في بناء الإنسان والوطن. وعذراً يا رفيق جبور إن أضأتُ على جزءٍ من سيرة حياتك كمجاهدٍ منذ نعومة أظفارك... وما حدّثتني به يكمن سرُّ وحافزُ نضالك . وجهادك... سأنقله بشهادة صدق ومثال لكل الأقوياء في نفوسهم في مواجهة تحديات الحياة، من أجل تنوّر العقول والقلوب، والضمائر، وخير الإنسان وسعادته... فيا أيها الرفيق الراحل جاهدتَ صامداً، وصابراً، على قساوة الحياة من أجل حياةٍ حرة فاضلة.

وأستميحك عذراً بأن أفشي سراً من أسرار جهادك العسير، وكما رويتَه لي بتفاصيل مريرة وصعبة، خصوصاً بعد وفاة والدك، الفلّاح البيطري العصامي الذي كان ينتمي سياسياً إلى المختارة. فبعد وفاته وجدتَ نفسك أمام منعطفٍ قاسٍ في الحياة. أسرةٌ فقيرةٌ كبيرة، وأنت المعيل لها، وكنتَ ما زلتَ على مقاعد الدراسة في إحدى مدارس المتن، حيث كان سكنك وإقامتك. وأمام هذا الواقع والمصير قرّرتَ إلى جانب دراستك التكميلية أن ترعى أسرتك، وتؤمّن لها سبل العيش الكريم، برعايتكَ واهتمامكَ، معتمداً على مورد رزقك الوحيد، وهي بقرةٌ حلوب هي إرث والدك. فكنتَ تستيقظ فجراً لتهتم بها وترعاها، ثم توزّع الإنتاج على المحتاجين، وتجني قوت عائلتك، ثمّ تعود وتهتم بها من حيث النظافة، والرعاية، والاهتمام الضروري، ثم تأخذ حمّالةَ الكتب، وتذهبَ مسرعاً إلى المدرسة وأحياناً متأخراً. وقد شكاكَ الأساتذة إلى مدير التكميلية يومها، فوجّه إنذاراً، ومن ثمّ اتّخذ قراراً بطردك، رغم تفوّقك اللافت في المواد العلمية والرياضيات. فقصدتَ المعلّم الشهيد، وأخبرتَه بهذا الواقع. فخيّرك بين الوظيفة والاستمرار في وضعك القائم. فاخترتَ الحفاظ على تأمين عيش أسرتك في رعاية البقرة. وأمام هذا الوضع اتّصل المعلم الشهيد بمدير عام وزارة التربية آنذاك، المرحوم سليم حريز، وقال له حرفياً: "المدرسة الرسمية هي مدرسةٌ للفقراء، وهي لأمثال جبور جبور الذي له حقٌ بالتعلّم. فأرجو، وأطلبُ، إقالة مدير المدرسة من مهامّه بسبب قرار طرد جبور جبور من المدرسة، ولحرمانه من حقّه في التعلّم". وهكذا كان!!! حيث صدر قرار إعفاء مدير التكميلية من مهامه. وأكمل جبور جبور دراسته، واستمراره بتأمين حياة وحاجة عائلته بشرفٍ، وتضحيةٍ، وعزة نفس. وبعد أن نال الشهادة الثانوية قدّم له المعلّم منحةً دراسيةً في الهندسة، فتابع دراسته في موسكو، وتخرّج بدرجة دكتوراة دولة في الهندسة بتفوّق. 

وفي تلك المرحلة انتسبَ إلى الحزب التقدمي الإشتراكي، وكان مثال الطالب المناضل التقدمي علماً ومسلكاً. وبعد تخرّجه تفرّغ ودخل ملاك الجامعة اللبنانية، وكان مثالاً وقدوةً للنضال والعلم، واحتضان الطلّاب بمحبةٍ وصدق مشاعر، ومثالاً يقتدى به.

عفوكَ رفيق جبور، فالوداع لا يعني نسيانك، بل ستظل ذكرى حيةً عميقةً في وجداننا. نفتقدك مناضلاً تقدمياً صادقاً ومجاهداً، ونفتقدك زميلاً مخلصاً وفياً لجامعتك، وتبقى سيرتك النضالية صفحةً مشرقةً في تاريخ نضالك التقدمي الإشتراكي. طوبى لك في شهر الآلام. وأنت العارف بأن الموت رحلةٌ، إن لم يكن استراحة من مسؤوليات أيامٍ صعبة، وقاسية، ومرّة.

رحمكَ الله جبور جبور، وعمركَ النضالي والنقابي يمتد ما امتدَّ الزمان. الرحمة لك وعليك... وداعاً.