بعد سيطرتها على جميع مدن الساحل الغربي الليبي، تحاصر قوات الوفاق (التابعة لحكومة فايز السرّاج) مدينة ترهونة الاستراتيجية، آخر معقل رئيسي للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في المنطقة الغربية، وتقول إنها مصمّمة على التقدّم لاستعادة المدينة لفرض ميزان قوى جديد في ليبيا، وذلك من خلال إحكام سيطرتها على ما يعرف بـ (الغرب الليبي)، وهي تحاذر الوقوع في حرب استنزاف مع قاعدة "الوطية" الجوية بشكلٍ يؤثر على معركتها المصيرية جنوبي العاصمة.
هذا التطوّر الميداني الجديد، جاء بعد تغيير حكومة الوفاق الوطني لاستراتيجيتها العسكرية في المعارك من الدفاع إلى الهجوم، حيث عمدت إلى قلب المعادلة العسكرية بعدما توفّر لها الدعم العسكري النوعي، جرّاء الاتفاقية الأمنية والعسكرية التي وقّعها أردوغان والسراج نهاية تشرين الثاني 2019.
ويقول المراقبون إن الحرب بين الطرفين تعتمد على الطيران المسيّر الذي تتفوق فيه تركيا، حيث تمهّد بضرب المواقع العسكرية لقوات حفتر من الجو، ومن ثمّ تتقدم قوات حكومة الوفاق والميليشيات الداعمة لها على الأرض. وقد عمدت هذه القوات إلى قصف الإمدادات العسكرية القادمة من الجفرة إلى ترهونة، ومنها إلى محاور طرابلس، وتمكّنت من شلّ حركة قاعدة "الوطية" الجوية بمواصلة القصف المستمر عليها.
كما نجحت قوات حكومة الوفاق في تشتيت قوة حفتر على عددٍ من المحاور بدءاً من جنوبي طرابلس باتجاه ترهونة وجنوبها، وشرق مصراته، بحيث لم تستطِع أن تسعف بعضها بعضاً.
المتحدّث باسم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، اتّهم تركيا بحشد الأفراد والمعدات لتنفيذ الهجوم على مدينة ترهونة، وأشار إلى وجود "قيادة ميدانية تركية خاصة في مناطق الجنوب الغربي، وهي تتولى تحريك جماعات من تنظيم القاعدة، والمليشيات التابعة لها في المناطق المحاذية للحدود مع تشاد".
وقال إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، "استفاد من الهدنة المعلنة لنقل أفرادٍ ومعدّات إلى طرابلس، ومصراته، وزوارة، لتنفيذ مهام إرهابية". وأشار إلى أنه، "من ضمن المعدّات التي نقلتها تركيا إلى المنطقة، طائرات استطلاع، وطائرات تشويش، وأخرى هجومية".
مصادر سياسية مطّلعة رأت في حديث مع "الأنباء" أن التحسّن الظرفي الذي فرَضته المصالح الأميركية والأوروبية بتثبيت الهدنة العسكرية في إدلب، "فرضَ تحسناً في العلاقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وانعكسَ ذلك على غضّ نظر أميركي – أوروبي تجاه الدعم العسكري والبشري الذي قدّمه أردوغان لحكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج. وهذا الدعم ما كان ليتمّ دون غطاء أميركي– أوروبي بعد مؤتمر برلين الذي أقرّ وقف إطلاق النار، والتوجّه نحو الحل السياسي، وتفعيل مراقبة التسلّح.
ورأت المصادر أن، "قرار مراقبة التسلّح في ليبيا، استُخدم بوجه روسيا، وهي التي تساند الجيش الليبي بقيادة حفتر، بمرتزقةٍ من الخبراء يتولون مهمة تشغيل الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجّهة. وهذا الأمر المزعج لواشنطن وفّر لأردوغان مساحةً واسعةً لتبديل موازين القوى الميدانية كما جرى في الأسابيع الماضية".
وتستغرب المصادر، "حالة الصمت التي يتعامل بها الإعلام الغربي مع الأحداث الليبية المستجدّة، إضافةً إلى تحفّظ سعودي- مصري. وهذا التحفّظ يعكس درجةً من الاختلاف بين الرياض، والقاهرة، وموسكو، في مقاربة الموضوع الليبين وموضوع دعم قوات حفتر. فالرياض تخوض معركة أسعار النفط ضد موسكو، ولديها تحفّظات على جماعة (المدخلي) التي تشكّل قوةً أساسية في قوات حفتر. و"المدخلي" هو أحد الدعاة والشيوخ السعوديين الذين يدعون إلى طاعة ولي الأمر، وهو ما يخالف توجّهات الرياض، وما يثير لدى السعوديين نوعاً من الحساسية.
كما أن الموقف الروسي تغيّر قبيل مؤتمر برلين تجاه دعم التدخل التركي، ولو بشكلٍ غير مباشر. فالكرملين باتَ يطمح إلى ضمان مصالحه في ليبيا من خلال النفوذ التركي، ولا يريد التصادم مع أنقرة في ليبيا. فالعاصمتان مرتبطتان بعددٍ من المصالح الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية، وأبرزها مشروع السيل التركي نحو أوروبا، والذي يمنح الغاز الروسي فرصة التدفق بعيداً عن أوكرانيا، سيّما وأن كمية الغاز الروسي التي ضخّها في الربع الأول من العام الجاري، وصلت إلى حدود مليارَي و300 مليون متر مكعب عبر السيل التركي.
المصادر ترى أن ليبيا أمام معركة مفتوحة، وأن الهجوم التركي عبر حكومة الوفاق الليبية وصل إلى ذروته الأولى، ومعركة ترهونة هي التي ستحسم ما إذا كان التقدّم على الساحل الغربي لطرابلس وحتى الأراضي التونسية، سوف يستقر لمصلحة حكومة الوفاق، أم أن المعارك سوف تشهد نمطَ الكر والفر، والحرب الطويلة. وتشير المعلومات الميدانية إلى أن الجيش الليبي استعاد أنفاسه، واستوعب الهجوم، ويحاول الآن تنظيم صفوفه. لكن السيطرة على مدينة ترهونة ليست مسألةً سهلة، حيث ذكرت تقارير عسكرية أن التقدّم العسكري قد يصطدم بتضاريس جغرافية صعبة. فالمدينة تقع على سلسلة جبلية يصعب اختراقها، وبالتالي من المبكر الحديث عن تغيير في المعادلة السياسية قبل أن تتضح نتائج المعركة.