وضعت جائحة كورونا العالم بأجمعه أمام تحدياتٍ جديدة قد تكون لها تداعيات مستقبلية كبيرة، وأصبح جزءٌ أساسي من هذا العالم خارج الخدمة، بحيث تعطلت الآلة الإنتاجية الرئيسية في غالبية الدول بنسبة كبيرة، وبدا أن الدول المتطورة في صناعاتها ليست قادرة على تلبية الحاجات المحلية لسكّانها ومشافيها، خصوصاً من المعدات الطبيّة، ووسائل الوقاية من انتقال عدوى المرض الفتّاك. ولولا الصين التي انطلق منها الوباء، واستطاعت أن تتغلّب على جزءٍ كبير من مخاطره، لكان العالم أجمع يعاني من نقصٍ هائل في التجهيزات والمعدات الضرورية للمكافحة. فحتى الولايات المتحدة الأميركية، وهي الخصم التجاري اللدود للصين، طلبت ملايين الكمّامات الواقية، وآلاف أجهزة التنفس الاصطناعي من أسواق الصين لسد النقص الحاصل عندها، ولكون غالبية المصانع الأميركية توقفت جزئياً – أو كلياً – عن الإنتاج بسبب تفشي الوباء.
وسط معركة المواجهة التي فرضها كوفيد – 19 على العالم، تتكشَّف جوانب الاختلال التي أصابت البُنية التحتية السياسية والصناعية لغالبية دول العالم. فهذه الدول كانت تتحضَّر لخوض السباق في اتّجاه، والوباء القاتل أطلّ عليها من اتّجاهٍ آخر، مُحدّداً زمن المعركة وساحاتها من دون استئذان، ومستخدماً عنصر المفاجأة الذي له باعٌ طولى في تحديد نتائج المعركة.
وحتى الآن، وقبل أن يتكشّف غبار ساحات المواجهة، بدا أن الفيروس القاتل حقّق انتصارات واضحة في بعض المواجهات، وتغلَّب على النمطية التي كان يعتمدها النظام الصحّي الدولي، والذي غالباً ما استند على وسائل وقاية، وطرق معالجة. وتنظر تلك الدول إلى تحقيق الربحية أكثر مما تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الإنسان. أو كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (النهار اللبنانية 6/4/2020)، "عندما أصبحت الأسواق تتحكَّم بمسار الأمور كافة، تحولت الصحّة إلى بيزنس [تجارة] لتحقيق الربحية".
وإذا كان العالم خارج الخدمة من جرّاء التعطيل القسري لقطاعاتٍ إنتاجية واسعة في غالبية الدول، إلّا أن تحديات الصراع من أجل البقاء تفرض على القادة عدم الاستسلام أمام الغزوة الوبائية الفاجرة، لأن انتصارها لن يرحم أحداً، والفشل يمكن أن يحرق العالم بأسره، على حد تعبير وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، وذلك في مقالته لمجلة "وول ستريت جورنال"، والذي نُشر بتاريخ 5 نيسان الحالي. ويتابع كيسنجر بالقول، "على القادة إدارة الأزمة، وبناء مستقبل مختلف عمّا كان عليه العالم من قبل، لأن النمطية التي كانت مُعتمدة أثبتت فشلها في حماية استمرارية البشرية".
وفي الوقت الذي يعيش فيه العالم "المُعولَم" أجمع تجربةً جديدةً قاسيةً لم يسبق أن حصلت بهذه القساوة من قبل، نرى حراكاً دولياً يولدُ من رحم الأزمة والذي قد يكون له تأثيرات مستقبلية واسعة، وربما يؤدي إلى تغيير خارطة التحالفات الدولية بشكلٍ جوهري، وبالتالي تفكيك غالبية المنظومة الدولية الحالية، والتي ربما تكون عاشت أكثر مما ينبغي.
ومن المؤشرات على التغييرات الجوهرية التي تحصل – بصرف النظر عن إذا ما تمكّن العلماء من إنتاج دواء لمكافحة الكورونا أم لا – الانقسام الأوروبي الواضح بين دول الاتحاد الكبرى، والذي قد يهدّد استمرارية الوحدة بينها، ذلك أن التباين بين إيطاليا وإسبانيا ومعهما فرنسا من جهة، وألمانيا وهولندا من جهةٍ ثانية، قد أجهض الاتّفاق على مشروع موازنة الاتّحاد الأوروبي للأعوام الخمسة القادمة، كما فشلت مباحثات القمة بينها في 30 آذار الماضي، والتي جرت بالتواصل المُباشر عن بُعد. وملامح الانقسام الأوروبي واضحة بعد الاتهامات الموجّهة من إيطاليا ويوغسلافيا ضد ألمانيا، على خلفية مسارعة الصين لمساعدة روما وبلغراد، بينما كان حلفاؤهما الأوروبيون يتفرجون على فظاعة الكارثة التي حصلت في بلدانهم. والأجواء السائدة حالياً في أوروبا قد تُعيد إنتاج انجذاب بعض الدول فيها نحو الشرق الروسي والصيني.
أما انحباس أكثر من نصف سكان الأرض في منازلهم، أو وضع أنفسهم خارج الخدمة فقد زاد من حدة الانكماش في غالبية الاقتصادات، وهو ما يهدّد بمشكلات بطالةٍ كبيرة، والتي تحتاج إلى ضخّ مبالغ طائلة في صناديق التعاضد التي تهتم بتأمين سُبل العيش للناس. ومسارعة البنك الدولي لتخصيص 40 مليار دولار أميركي لمساعدة الفقراء والمحتاجين من جرّاء توقُّف مداخيلهم المالية هي خطوة أولية هامة، لكنها ليست كافية لمعالجة كل المُعضلات الناتجة عن التراجُع المخيف في مستويات النمو، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. أما الأخبار القادمة من القارة السمراء فلا تُبشّر بالخير، حيث أن تفشي الوباء بدأ يظهر بقوة إلى جانب أمراضٍ سابقة أُخرى موجودة. وخطوة تأجيل دفع ديون الدول الفقيرة غير كافية لمواجهة التحدي.
وعلى الجانب الآخر من ضفّتَي الأزمة فإن مشكلات نفسية، واجتماعية، وإنسانية ستتفاقم من جرّاء تفاعلات الأزمة، كما أن أصواتاً عديدةً بدأت تتحدث عن ضرورة تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية المعمول بها منذ زمنٍ بعيد، لصالح مقارباتٍ تفرض انضباطية أكثر، وتحدُّ من الانفلاش والاسترخاء الذي تفشَّى في السنوات العشرين الماضية.