Advertise here

لا بدّ من ثورة تقدّمية

06 نيسان 2020 15:47:00 - آخر تحديث: 12 نيسان 2020 20:16:55

ليس من الضروريّ أن يكون الإنسان فاشلاً في الحفاظ على حضارته، عندما يفشل أو يرتبك في مواجهة جائحةٍ فيروسية؛ فمنجزات الإنسان باتت عظيمةً وعظيمةً جداً في مجال سيادة العقل على الظواهر. ولكن الحضارةَ ستبقى مع  هذه السيادة يعتورها النقصان، مما يودي بها وبمنجزاتها عاجلاً أم آجلاً، ذلك أنّ التقدّم الحضاريّ يقوم بالهيمنة المعرفية على الطبيعة، إضافة إلى الهيمنة على مجمل النوازع النفسية، ولا يمكن أن يحصل التقدّم الحضاريّ ما لم يكن التعاضدُ بين طرفَي هذه الثنائيّة.

إذا كانت الهيمنة على الظواهر الطبيعيّةِ مبررةً بالحاجةِ الإنسانية التي تقتضيها العلاقة بين الاجتماع البشريّ والطبيعة في كنف الزمان، فإنّ الهيمنةَ على النوازع النفسيّة أيضاً يجب أن تكون مبرّرة بالحرص على سلامة الاجتماع البشريّ في علاقته مع الطبيعة. وهنا تنشأ الاجتهادات والرؤى المختلفة التي تقدِّر حجم التدخل في الحياة الفرديّة، أو الجمعيّة، بموجب القوانين الوضعيّة أو المرجعيّات الإيمانية الروحية، في تحديد طبيعة الهيمنة على هذه النوازع، والحدّ من أخطارها المتوقّعة على الأفراد ومجتمعاتهم. وهنا أيضاً تتأسّس الاختلافات التي تتطور إلى خلافات حول الخصوصيّة والعمومية. إذْ لا يوجد ما هو خاص لا علاقة له بما هو عام. ولكن بعض الخصوصيات قد يكون خطرها محدوداً، أو غير بادٍ، فلا يحق لأحدٍ أن يتدخّلَ بها سوى القانون الذي يحميها، ويحمي الأفراد وجماعاتهم من إمكان تماديها. أمّا النوازع التي تهدّدُ الاجتماع البشريّ واستقراره فهي التي ينبغي أن تعقَدَ لأجلها الاتفاقيات، وتحدَّد كل العلاقات الإنسانية بما لا يتناقض معها.

صحيحٌ أنّ الحاجات تختلف من بيئةٍ إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، إلّا أنّ الصحيح أيضاً أن استمرار السلامة الإنسانية على ظهر الكوكب يقتضي ترشيداً للحاجات، وتشكيل قناعاتٍ مشتركةٍ بأنّ الطبيعة للجميع، وظواهرها تعني الجميع، ومعرفتها ينبغي أن تكون متاحةً للجميع، وأن يكون السعي دؤوباً ليكون الجميع خاضعاً بشكل أو بآخر لما تقتضيه المعرفة. وتسيّدُ العقل ممكنٌ بمقدار ما يبدع في هذا المجال أو ذاك، لا بمقدار ما يستهلك من آثار الإبداعات.

وإذا كان التصدّي لبعض الظواهر الطبيعية يقتضي أن يُبنى على ما يُعلم، فلا يجوز أن تُحتكر المعلومة ارتهاناً لنوازع الأرباح، أو لأيّ سببٍ آخر. فالمعلومةُ للجميع، طالما أن الظاهرةَ تتحدّى الجميع. وهنا تجدرُ الإشارة إلى أن تسيّدَ العقل على الظواهر قد لا يكون سوى وهمٍ، وعلى الأقلّ ببعض جزئياته، إماّ لأنّ العقل باتَ مطمئنّاً لآلياته العريقة، وإما لأنّ الظواهر قد أدمنت هذه الآليات، فبات أداؤها متطوراً ومختلفاً، وفي نظر العقلاء، كما لو أنها لم تتغير، وهو الأمر الذي يستدعي إعادةَ النشاط، وبعثِ العقل من جديد بغية تمكينه من السيادة مرّةً أخرى وشماتةُ المعترضين على المؤمنين بالعقل، تاريخياً، لا تجدي وليس لها أيّ معنىً؛ فهم بالنهاية سيعالجون مرضاهم بما يمليه الطبيب.

طبعاً أنا لا أعترض على الجانب الروحيّ الذي يشكلُ مرجعيةً ثقافيةً يحدّ بها الإنسان من إلحاح نوازع النفس؛ بل أراه ضرورةً لا بدّ منها في كبح الغرور والاعتداد كي يتسنّى للإنسان أن يموضِعَ نفسه إزاء الطبيعة وظواهرها الموضع الواجب؛ بل ينبغي أن يكون هذا الجانب هو الضامن وبمثابة النفس اللوّامة، أو الضمير الحيّ، أمام الكشوف العلمية، وما تتيحه من إمكانات القهر والاستعباد والإذلال.

كما أنّي لا أعترض على أعمال العقل الذي يشكّلُ مرجعيّة علميّةً يحدّ بها الإنسان من إلحاح الظواهر الطبيعيّة على حياته؛ بل أراها ضرورةً لا بدّ منها في تعزيز الرهان على إنسانية الإنسان، ومسؤولياته تجاه حياته والكون، بل هو ضرورة ليمضي الإنسان في هذا الكوكب على هدىً من أمره، وسلطانٍ مبين. 

إذن، لا بدّ من ثورةٍ تقدّميّة في ترشيد المسار الحضاري، ومن موقفٍ جذريّ شمولي علمي، يجعل الإنسان سيّداً على الطبيعة، وعلى نوازع النفس البشريّة. وهذا يقتضي أخلاق الاجتهاد والبحث العلمي، كما يقتضي سيادة القانون فوق المصالح الآنيّة لأي متنفذٍ معنويّ أو شخصيّ، فالإنسان فوق كل قيمة، وما من ضامنٍ لهذا سوى عقلنة القوانين الوضعية وغير الوضعية، وسيادتها في كل المجالات والأمداء.

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.