نحن في لبنان نتلقى إشارات ذبذباتٍ غير معروفة المصدر تدخل عبر الفضاء، وتتسرّب إلى العقول. تتفاعل الإشارات مع الأدمغة، وتحوّلها إلى أداةٍ تحركها وفق رغباتها، مثلها في ذلك مثل الفيروس المعدي الذي يصيب الناس في صحّتها، مع فارقٍ بسيط، وهو أنه لا يصيب إلّا جماعة العهد وحلفائها. ومن عوارض هذا الفيروس الشعور بالعظَمة. فالتفرّد بالرأي والاستئثار بكل شيء، وتصوّر الواقع على خلاف واقعه، والإحساس بأنهم مرسلون، ولولاهم لكانت الأشجار تنبت بالمقلوب، ولكانت البحار جُزِرت، واليابسة أقفرت، والخلائق انقرضت، وفضلهم على الناس نعمةٌ لا يقدّرونها.
نعم، هي الإشارات، المسؤولة عن السياسة التي يمارسها العهد وحلفاؤه في الحكم اليوم، والتي تغيّر وجه لبنان السياسي والاقتصادي، عبر التخريب الممنهج الذي يمارسونه في جميع إدارات الدولة، ابتداءً من القواعد التي على أساسها أتت الحكومة الحالية حكومةً غير سياسية، وفي الحقيقة هي سياسية بالمطلق؛ وحكومة اختصاصيين، وفي الحقيقة لكل وزيرٍ من الوزراء الكثير من المستشارين المختصّين؛ وحكومة مستقلة بآرائها، لكنّها تبدّل وتغيّر من مواقفها بين اللحظة والأخرى إذا ما هدّد أحد عرّابيها بالاستقالة؛ وحكومة لكل اللبنانيين، وفي الحقيقة هي حكومة الوجه الواحد.
حكومةٌ تعدُ اللبنانيين بخطةٍ اقتصادية لتنقذ ما تبقى من اقتصاد، فإذا بها تضع آليةً تهدف من خلالها إلى تفقير ثمانين بالمئة من المواطنين أصحاب الدخل المحدود والمتوسط، وبأسلوبٍ مبتكرٍ من أساليب الدولة البوليسية، والذي يتميّز بالمراوغة والتضليل لتمرير المخطّط المرسوم. وهذا يتّضح من خلال استبدال مبدأ haircut، و capital control، المخالفَين لمبدأ الاقتصاد الحر، واللذَين لقيا معارضةً واسعةً من قِبل الشعب والأحزاب السياسية، وبآليةٍ مدروسةٍ ومتفقٍ عليها بين العهد وحلفائه، ومصرف لبنان، وجمعية المصارف، وذلك وفقاً للآتي:
1- تتهرّب الحكومة من واجبها الدستوري بإصدار المراسيم التي من شأنها إنقاذ الاقتصاد الوطني من الانهيار، وبالتالي طمأنة الناس على عدم المسّ بمدّخراتها بأي عملةٍ وُجدت لدى المصارف، وترك هذا الموجب ليقوم به مصرف لبنان عبر قرارات الحاكم، والتي لا يستطيع مجلس النواب إجراء أي مراقبةٍ عليها.
2- إقفال باب المصارف بوجه المودعين، وتحويل خدمات المصارف إلى الصرّاف الآلي، وبحيث لا يستطيع العميل سحب أي من مدخراته بالعملة الأجنبية، ولأي سببٍ كان.
3- تركَ سوق القطع تحت رحمة وجشع الصيارفة، مما أدّى إلى ارتفاعٍ كبيرٍ بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
4- ومن ثمّ إسكات صغار المودعين عبر تمكينهم من سحب ودائعهم، والتي لا تتجاوز 5.000.000 ل.ل، أو 3000 دولار أميركي، وذلك وفقاً للقرار الصادر عن حاكم مصرف لبنان رقم 13215 تاريخ 2 -4- 2020، والذي جاء مبهماً لناحية سعر الصرف، ما إذا كان السعر المحدّد رسمياً للصيارفة المرخّصين، أم السعر المتداوَل في السوق السوداء.
5- إدخال مصرف لبنان كصرّافٍ مضارب في سوق القطع من أجل شراء العملة الأجنبية (الدولار الأميركي) وفقاً لقرار الحاكم رقم 13216، تاريخ 2 -4 - 2020. وهذا سيؤدي حتماً إلى عدم استقرار سوق القطع من ارتفاعٍ وهبوطٍ بسعر الصرف.
6- وفي المحصلة تكون الحكومة قد تهرّبت من أي خطةٍ للإصلاح، وترشيد الإدارة وتنقيتها مكتفيةً بإجراءاتٍ مؤقتةٍ تعيد صورة المضاربة بالدولار إلى أيام الحرب الأهلية القاتمة. والضحية الوحيدة هو الشعب اللبناني واقتصاده.
إن هذه التسوية الجديدة، الواضحة بمعالمها والقائمة بين العهد، وحلفائه، ومصرف لبنان، وشركات الصيرفة، لن تُنتج اقتصاداً وافراً على الشعب اللبناني الذي سيقع تحت رحمة التجّار الكبار المتحكّمين في اللعبة الاقتصادية، وستبقى الأشباح في سدّة الحكم والحكام الحاليين صوراً ظاهرةً فقط لتراها الأعين، لكن الأفعال هي من الإشارات والذبذبات التي ترسلها الأشباح بلغةٍ ليست مقروءةً منّا رغم أن حروفها عربية، لكن معانيها مختلفة لا يفقهها إلّا أصحاب العهد وحلفائه، وبالتالي فلنترحّم على مميزات لبنان، ومنها الاقتصاد الحر.
الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.