Advertise here

السيف والقلم

04 نيسان 2020 19:50:00 - آخر تحديث: 04 نيسان 2020 19:51:33

السيفُ، كما القلم، حافظٌ للعرضِ والأرض، صائنٌ للكرامات ضد كل من تسوّل له نفسه التطاول على كل نفسٍ شريفةٍ عزيزة. كيف لا، وبه كانت فتوحات الإسلام ونشره.

من منّا لم يرَ، ولا يعرف، ذي الفقار الذي تزنّر به، وحمله، الإمام علي بن أبي طالب، كرّم اللّه وجهه، هديةً من النبي محمد (ص). شهرَهُ محارباً في نشر الدعوة الإسلامية، مشاركاً في فتوحاتها، حافظاً لها. وكما كان السيف بيده اليمنى، كان القلم بيده الأخرى. فكان أميرَ البلاغة والعلم والمعرفة، إذ لا زلنا ليومنا هذا، وللأجيال القادمة، نستلهمُ من نهج بلاغته، وغزارة علمه، وصوابية رأيه، وقوة منطقه.

لكن يبقى السيف في مراحل متعددة، كاقتتال الأخوة، والغزوات بين القبائل، وإخضاعِ الأشراف (عهد السلطنة العثمانية وولاتها)، هو القاهرُ المُعاقِبُ، والخنجر الغادر، والمسلّط فوق الرقاب، يهوي على الرؤوس دون حساب، ظالماً العباد، حاصداً الأرواح، فاتكاً بالصغار والكبار دون حسيبٍ أو رقيب، وشرّ عقاب.

ولجّ به في الكثير من الأوقات السفهاء بأمر الظالمين والسارقين وقطّاع الطرق، وبعضٌ من المتعجرفين المستعبدين القابضين على الحكم، والسلطة والتسلّط، على الشرفاء الجدد والقدماء.

لو رُفع عن رقاب هؤلاء الناس باستعماله، أو التخويف منه، ما كان سيكون وضع الأصدقاء والأعداء؟

ماذا لو كُفَّ عن تهديد الآخر به، وبلقمة عيشه؟ هل سيبقى كل شيءٍ على ما هو، أم كنّا سنرى وجوهاً كثيرةً تضمحلّ رويداً رويداً كالأعشاب؟

وهل الحدّ، أو القصاصُ بقطع الرقاب والأيدي في بعض المفاصل، منعَ السرقة والاعتداء؟

وهل الحروب، سابقاً بالسيف، واليوم بالرصاصة، توقفت عند حدٍ أو باب؟

وهل الطمع بالسلطة بالإكراه، أو غيره من أساليب وسرقة المال، توقفت في يومٍ ما، وتلاشت إلى الانعدام؟

أما القلم المغرض المفتري فهو أشدّ فتكاً في عقول الناس وأفكارهم، في كل الأوقات والأزمان.

فكم من كُتبٍ كانت كاذبةً ومقالاتٍ تحمل بين أسطرها حقداً وكراهية. وكم من أخبارٍ مغرضةٍ كُتبت بقلمٍ حقودٍ يبثّ الدسائس. وكم من تاريخٍ كُتب بيد الأقوياء مُحرفٌ وبعيدٌ عن الواقع.

أما الكلمة الطيّبة التي سُطّرت بقلمٍ واعدٍ مُنصفٍ، فكانت، وستبقى، مُسيطرةً منذ ما قبل التاريخ والإعداد، يُحيكها العقلُ، وينطق بها اللسان، ويخطّها قلمٌ يصعبُ كسره في كل العصور والأزمان، وتنبع من ذاتٍ كريمةٍ أصيلة.

نريد ذلك القلم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، والعقول معه تفتّحت والعيون، وعلى كلماته أبصرت بعضاً من حقيقةٍ مجهولة مليئةٍ بالأسرار.
تلك الريشة في ما مضى أنبأتنا ما كان يدور في العصور الغابرة، وخطّت لنا كُتباً، وقصصاً، وشعراً نتنعم به ونقرأه ليومنا هذا.

ذاك القلم الذي سال حبره حباً، عشقاً وشغفاً، معرفةً وعلماً، وبه حُلّت أصعب المعضلات الرياضية، والفيزيائية، والكيميائية.
يُمسكه الصغار برفقٍ ويتدرجون معه لِعلمٍ نافعٍ يُفتّح العقول، والبصيرة، والبصائر. ومعه يستمرّ الكبار باستعماله في هذه الحياة النكباءُ.

من منّا لم يحمل قلماً، صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً وأنثى، أميّاً أو متعلماً؟

أما ذاك السيف المُفتري الحاقد، فلا يحمله سوى الضعفاء. ضعفاء النفوس، وأصحاب البطش، والنفوذ والتعدّي. امتشقه كلّ من أراد إخضاع الناس بحدّه، والتهديد بالحساب.

الكثير من السيوف حملها كل من أراد غزو الدول، وإعلان الحروب، فارضاً بين الإنسان وأخيه حدوداً وجدرانَ حقدٍ لا تذوب أبداً، وإنما تترك في النفوس جروحاً لا تطيب، وهوةً نفسية لا تُدمل، هذا  ناهيك عن حب الانتقام والعداء.

أما القلم الطيّب، الرقيق المعنى، القوي بقوة الكلمة، كلمة الحق وصفائها، ونقاوة معناها وصدقها، ويخطّها دقةً وجمالاً، فيشهرها حربَ الفرد المتميز ضد العامّة الطاغية، وحرب القيَم على المادة، وحرب الحكمة على التهوّر، وحرب العدل على الظلم، وحرب الصدق على الكذب، وحرب العلم على الجهل، وحرب الحق على الباطل، وبه تتقدّم البشرية نحو الأفضل والارتقاء.

بالقلم الوازن يُبرز كل شعبٍ فكره وثقافته، وهو أداة البيان وقيثارة الزمان، تعزفها كل روحٍ بما كمنَ فيها من روعة المعرفة والفن على مآدب الحياة المعرفية.

تلك الريشة، أو ذاك القلم، حكما الناس بالعلم، والمعرفة، والكلمة الليّنة، وطاعوا له جميعاً، وأسقطهم بالاختبار دون عذاب بما جنى عقله ويداه.

طوبى لمن حمل، وخطّ بقلم، وفتح كتاباً، ونشر المعرفة بين الأمم والخلائق، وأرغم البشر على البحث عمّا يحمل من أسرار هذا الكون الجذّاب.

ليبقَ سيفُ الحق مُشهراً بقوة الحق، وليونة الكلمة. وليبقَ قلمُ العدل، والصدق، والحب، والحقيقة، والمعرفة، والعلم، مُصاناً بيد العقلاء، لا السفهاء. ويبقى السيفُ سيفاً، والقلم قلماً.

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.