Advertise here

أدب الحياة في زمن الوباء

02 نيسان 2020 13:23:41

إنّ التمعّن بقراءة كتب المعلم كمال جنبلاط يزيدنا قناعةً بخلود أفكاره، واستمرارية فائدتها في خضمِّ تعاقب العصور. كما نلاحظ أنه في معظم كتبهِ يأتي على ذِكر أقوالٍ وحِكمٍ مقتبسةٍ من إحدى الحضارات القديمة، سواءً الحضارة المصرية، أو الإغريقية، أو الهندية، ويستشهدُ بهذه الحِكَم ليوصِل المعرفة والفهم اللذَين يوَدّ إيصالهما للناس.

وتبدو جليةً للعَيان كمية الحكمة، والتنوير، والمعرفة الحقّة، التي تصبغ كتابات المعلّم كمال جنبلاط، وكيف أنّ تلك المعرفة نابعةٌ من معارف قديمة من عمر حضاراتٍ غابرة وصلت إلى القمة في الحكمة الوجودية.

وقد تحدّث المعلّم في أحد كتُبه عن مفهوم الدورة الكونية التي آمن بها قدماء المصريين، والتي تشير إلى حقباتٍ زمنيّة تتسم كلٌ منها بصفاتٍ معيّنة تطبع طبيعة العصر، وكيف أنه في نهاية كل حقبة تحدثُ أزمةٌ ما تعبّر عن اختلال المعايير الطاقيّة لتلك الحقبة، بحيث تحتاج الحياة لإعادة التوازن الذاتيّ لطاقاتها، فتُحدِث تلك الأزمة التي قد تأخذ شكل حركةٍ طبيعية شبه مدمّرة تقوم بتنظيف، وإزالة، أو بالأحرى إعادة تدوير، كل ما خلّفته تلك الحقبة من رواسب باتت تعرقل مسار عملية التناغم الطاقيّ.

وإذا ما تمعنّا في قراءة كتاب "أدب الحياة" نجدُ أنه شكلٌ من أشكال التنظيم الراقي للحياة الصحيّة، سواءً من ناحية الجسد الفيزيائي، أو الجسد العقلي، أو الجسد الروحي. فقد وردت فيه عدّة محاور في هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره جوهرةً خالدةً، ونموذجاً راقياً للاقتداء به نحو مسيرة حياة صافية ومتطوّرة روحياً. وهي محاور تعبّر عن معارف قادرة على أن تكون عاملاً وقائياً، وحتى شافياً، من كل الأمراض، وأشكال الاضطرابات سواءً الجسدية، أو النفسية والروحية، وبالتالي قادرةً على أن تكون مرجعاَ في ظلّ ما تواجهه البشرية اليوم.
وورَد في محوَر أدب تناول الطعام، ضرورة أن يكون الطعام مُعتدلاً، وأن يكون بمعظمه من منتوجات الطبيعة الخالصة، من دون وجود المواد الكيميائية التي سعَت إلى العبَث بأنظمة الطبيعة المثالية لزيادة الإنتاج والربح المالي.

كما نجد في محور الحفاظ على الطبيعة، التشديد على أهمية التعامل الإنساني الرحيم معها، وعدم تلويث البيئة التي نعيش فيها بالمواد البلاستيكية، وبالضجيج، وبالمواد السامة، وكذلك الحفاظ على مواردها النباتية، والحيوانية، والمائية، وغيرها من الموارد، وعدم المبالغة في استنفادها دون قيود، لأن كل تلك السلوكيات التي استباحها البشر لسنوات طوال سوف ترتدّ عليهم، وقد ارتدّت بالفعل. فقيامنا بالاستهلاك الزائد للمواد الكيميائية والبلاستيكية، والمواد الضارة بالبيئة، لتلبية احتياجات ليست بالضرورة أساسية، قد عاد علينا بكمية غريبة، وهائلة، من الأمراض الجديدة التي ما زلنا نسعى، بكل ما أوتينا من إمكانيات، لإيجاد دواء لها. كما ارتدّ ذلك علينا بأن أصبحنا نعيش في أجواءٍ ملوثة وضارّة بالصحة، سواءً الهواء، أو الماء، أو الأجواء العامة الصاخبة والضاجّة من أصواتٍ كثيرة مضرّة بالنفس والصحة على السواء، وعدم الإحساس بالسلام، ممّا زاد في انتشار الاضطرابات النفسية والشعور بالعدائية، والغضب، والتوتر، والقلق وعدم الرضا النفسي.

لقد حدّثنا أيضاً المعلّم كمال جنبلاط في كتاب "أدب الحياة"، وفي المحوَر المتعلّق بأدب الجلوس والنظافة والسلام، عن العديد من الأشياء التي نُضطرّ اليوم للالتزام بها قسراً في زمن الوباء، بحيث يقول إنه من أدب الدخول إلى المنازل تنظيف الحذاء، أو خلعه عند الباب، كي لا نُدخل أوساخ الطريق إلى المنزل، وبالتالي كي لا نخلّ بالطاقة الإيجابية داخل البيت، ونُدخِل عليها عناصر خارجية مُضِرّة.

تحدّث المعلّم أيضاً عن أنواع السلام والمُصافحة، وأكثرها أماناً بالنسبة لعدم نقل الجراثيم، وهي السلام الذي يعتمده البوذيون على شكل ضمّ الكفّين كشبه صلاة، بأنها أفضل أنواع السلام بحيث تبعث الشعور بالتعاطف، ولا تسمح للبكتيريا والجراثيم بالانتقال إلى الشخص الآخر، كما تمنع تمازج الطاقة بين الشخصين كي لا يؤثّر واحدهما على الآخر.

حدّثنا المعلّم أيضاً عن المنطق الموجود في الوضوء عدّة مرّات في اليوم للحفاظ على النظافة الشخصية، وللتخلّص ممّا يعلق في البدن من جراثيم خلال العمل والتنقّل، كما نوّه بفائدة الصلاة، أو التأمّل لعدة مرّات في اليوم، للابتعاد عن ضوضاء العمل، واستعادة السلام النفسي.
نوّه المعلّم كذلك في محور أدب زيارة المريض بالكيفيّة السليمة لأخذ الموعد، وعدم إزعاج الآخرين بالدخول عليهم دون استئذان. وعند الزيارة يجب أن يكون الكلام قليلاً، وواضحاً، وإيجابياً، فلا يُثقِل كاهل المريض بأخبار مُزعجة وغير ضرورية.

تحدّث المعلّم أيضاً في محوَر أدب الحديث عن ضرورة أن يكون كلامنا صادقاً، وغير نابعٍ من الرغبة بالثرثرة وتناقل الأخبار، لأن تلك العادة ضارةٌ جداً بالنفس والروح، وباعثةٌ على نشر الطاقة السلبية بين الناس. وهذا المحور من المهم جداً أن نعود إليه في هذه الأيام، أيام مواقع التواصل الاجتماعي القائمة على الثرثرة، ونقل الإشاعات، والضلالات، والأخبار الكاذبة، وحتى التشهير بالناس والكلام الهجومي والشتائم انطلاقاً من أنه لا أحد يرانا، فنستطيع أن نقول ما شئنا. إذاً، ينقصنا اليوم كثيراً أن نقرأ عن أدب الحديث الذي يجب أن يكون باعثاً للطاقة الإيجابية، ومفيداً للآخرين، وغير عشوائي بحيث يُضلّل الفكر والروح.

نحتاج اليوم، وبشكلٍ جدّي، لقراءة كتاب "أدب الحياة" بحيث نعود إلى فهم الهدف من وجودنا على هذه الأرض، ونعود لنُدرِك أنه يوجد نظامٌ في هذا الكون علينا اتّباعه لأننا بهذا العبَث، واستباحة الطاقة الحياتيّة بشكلٍ عشوائي وفوضوي، إنما نحن نضرّ أنفسنا جسداً وروحاً. واليوم تحديداً يمكن أن يكون كتاب "أدب الحياة" ومضةً من النور القادرة على إعادتنا إلى مسار الحسّ الإنساني الراقي.

*أخصائيّة نفسية