Advertise here

"كورونا" يفرض أجندته على الدول ويسقط منظومة الأعراف والتقاليد

18 آذار 2020 18:19:00 - آخر تحديث: 18 آذار 2020 19:26:49

حسم المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ، الجدل السياسي حول فيروس "كورونا" بقوله، "منشأ الفيروس يمكن تحديده فقط بالعلم، نحتاج إلى الاعتماد على وجهات النظر العلمية والمهنية، لا نأمل رؤية أي أحد يستخدم هذه المسألة لوصم دول أخرى"، داعيا العالم إلى "الاجتماع على محاربته".

وهذا ما أشار إليه أيضاً رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، برفضه ادراج كورونا ضمن نظرية  المؤامرة إذ قال "رأينا كيف بدأ في الصين، وبات مرضاً عالمياً، وأعتقد أنه آتٍ من سوء التغذية، ومن التلوث بالطقس، ومن المستحضرات الاستهلاكية الجديدة التي تدمّر مناعة الجسم، ومن عدة أمور. لذلك التوعية مهمة" داعيا الى التضامن في مواجهته. 

"كورونا" الذي صنفته منظمة الصحة العالمية بصفته "جائحة" تجتاح العالم، أي أنه وباءً عالمي هو الأولى من نوعه في القرن الواحد والعشرين، فرض أجندته وأولوياته ولائحة الوقاية منه على العالم ونظام العولمة والسياسات الاقتصادية والنزاعات الدولية والقيم والتقاليد السائدة، والتي لا بد من الوقوف أمامها.

فرض الانتشار المفاجئ لـ "كورونا" نمطاً جديداً في مقاربة الصراعات السياسية والعلاقات بين الدول، على اعتباره عدو مشترك يواجه البشرية جمعاء، متجاوزاً حدود الدول الكبرى والصغرى، وقادر على اختراق البيت الأبيض، واختراق الكرملين وبكين وأي حصن من حصون القوى العالمية مادية كانت أم روحانية، كما يخترق اي بيت من بيوت الأغنياء والفقراء على حد السواء، وليقرع جرس الإنذار ويذكر الناس جميعاً وقادة الدول، أن البشر على هذا الكوكب متساوون من حيث كونهم "آدميين"، وفي "إنسانيتهم"، بعد ان ساد العالم شريعة الغاب، جراء الأحادية القطبية التي تحكمت بالقرار السياسي والاقتصادي والعسكري بعيد انهيار منظومة الدول الإشتراكية، حيث توزع العالم بين قوى كبرى، وقوى متوسطة وقوى صغيرة، والقوي يتحكم بالضعيف.

وفرض "كورونا" بحكم الضرورة مقاربة جديدة للصراعات الدائرة تحت شعار صدام الحضارات والإيديولوجيا وجشع التجارة الحرة وشركاتها الربحية، التي جعلت البشرية وقوداً مجانية لحروبها، بعد أن أفقدتها قيّمها الأخلاقية والإنسانية، وحقها في العيش بسلام على هذا الكوكب، فسياسة الاستغلال والانتهازية والجشع المالي، وانتهاك قانون الطبيعة، شرّع من انتشار الأوبئة والأمراض، ومنها "كورونا" الذي تقف البشرية متساوية أمام بطشه، دون تمييز وعلى قدر واحد من الأهمية.

أن المنظومة السياسية والاقتصادية التي تتحكم بالكرة الأرضية، والتي تجني الأرباح الطائلة من ورائها، تجني أيضاً الأوبئة والمخاطر الكبيرة، لم تعد قادرة على الإستمرار والبقاء، فالربح والخسارة ليسا المعيار الأساس للنجاح أو الفشل إذا كانت موجهة ضد الإنسانية،  وهدفها فقط تمركز الثروة بأيدي قلة من البشرية لا يتجاوز عددها 3 أو 4% من عدد سكان الأرض، أو التحكم بأكثر من 70% من ثرواتها، دون رادع أخلاقي أو إنساني أو بيئي. 

لقد كشف الانتشار السريع لفيروس "كورونا" هشاشة المنظومة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، التي انبثقت منها الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، وبات الحديث عن التقدم العلمي للحضارة الغربية، منقوصاً أمام افتقار تلك الحضارة للتقدم والارتقاء الإنساني، رغم وجود النخب الفكرية التي قدمت للبشرية الفكر الإنساني المتقدم، لكن هذاافكر بقي في إطاره النخبوي ولم يتحول إلى منظومات عمل حكومية، وطنية أو دولية.

كما كشف فيروس "كورونا"، بشكل سريع منظومة التقاليد الاجتماعية السائدة والموروثة، إجتماعية كانت أم دينية أم ثقافية، التي باتت بحاجة إلى مراجعة، وقراءة جوهرية جديدة، بعيدة عن التقديس، بعيدة عن التمسك بحرفية ما وصل إلينا من أنماط  وطقوس تتجسد فيها أشكال العلاقات الاجتماعية، بدءًا من السلام  والقبلات، وصولاً إلى الصلاة والطقوس الدينية، والتي ساهمت في انتشار "كورونا"، لذلك فإن هذه المسألة تحتاج الى إعادة ترتيب لطرق العلاقة بين الناس، على أسس عقلانية - إنسانية، بما يحقق أهداف التواصل الخلاق فيما بينها، ويحقق التوازن بين حق الفرد وكرامته وحريته، ووانتظامه بالجماعة كواحدة من صيرورة التطور والتجمع البشري، كون الإنسان كائن اجتماعي.   

 لذلك يقف العالم اليوم شبه عاجز أمام فيروس "كورونا" الذي ينهش القرية الكونية، في ظل انهيار مالي، وتباطؤ اقتصادي، وطفرة مالية للشركات الربحية التي جنت الأموال الطائلة باستثماراتها العديدة، ومنها استغلالها التجاري لوباء "كورونا"، دون رادع إنساني وأخلاقي.
لقد فاقمت رأسمالية الربح المالي من مستوى الصراعات في العالم، واصطدمت مع منظومة القيم والمعايير التي شكلت عنوان صراع الغرب مع المعسكر الاشتراكي، كالديمقراطية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان، والتي أصبحت عبارة عن مجموعة ملاحظات في نهاية سلم الأرباح المالية والاقتصادية، التي تحكم علاقة الغرب بدول العالم.

 لذلك فإن مواجهة "كورونا"، لا يمكن أن تتحقق إلاّ بإسقاط فلسفة الربح من أجل الربح، وإعادة النظر في منظومة الاقتصاد العالمي، وسياسة الاستغلال والقهر، وإعادة الاعتبار لقيم التضامن الإنساني من عدالة اجتماعية ومساواة جوهرية، وكرامة بشرية، واحترام لقانون التوازن الطبيعي للبيئة.

وبالتالي العودة إلى نظرية الطريق الثالث، التي تقوم على نظام إقتصادي اجتماعي أكثر إنسانية، يجمع ما بين قوانين السوق الحرة المنضبطة، ومتطلبات دولة الرعاية الاجتماعية، على اعتبارها مدخلاً للعولمة الإنسانية، وبديلة عن الرأسمالية الربحية الجامحة المسيطرة على العالم، ونقطة انطلاق لمجتمع بشري خالٍ من الصراعات، والذي كان يتحدث عنه المعلم الشهيد كمال جنبلاط  بقوله، "النظام القادم علينا، هو النظام الإنساني الكامل الذي يقضي على الطغيان السياسي وعلى الاستغلال الاقتصادي في آن واحد، فإنَّ هذا التأليف لن يتمّ إلاّ بروحية العدل والأخوة والمحبة، لا بذهنية الحقد والكراهية، المحبّة الجامعة المؤلّفة التي هي، على حد تعبير (أوغست كنت)، عنصر التضامن في العالم الجديد".