كمال جنبلاط

16 آذار 2020 09:27:00 - آخر تحديث: 16 آذار 2020 09:30:49

لطالما تهيّبت أن أكتب عن كمال جنبلاط إدراكًا لقصوري عن الإلمام به والإحاطة بسمو قدره الأخلاقي والفكري والمسلكي، يعزّيني في ذلك أنني على مذهب المرحوم العلامة السيد هاني فحص الذي قال يومًا في ندوة لمنظمة الشباب التقدمي في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية: "أنى لك أن تبلغ معناه، كأنك مكلف أو مكلف نفسك أن تُدخل الدنيا في بيضة، فلا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة".
فإذا كان هذا حال السيد هاني، تعففًا منه واحترامًا لكمال جنبلاط، فكيف يكون لأمثالي ممن يقرأون المعلم بقلوبهم قبل عقولهم، وبشعور الانتماء قبل إدراك العقل أن يعتلوا معتلاه.

كان عمري عند استشهاده خمس سنوات، وأذكر - ولا أعرف هل هي ذكريات حقيقية أو متخيلة كما يقول ربيع جابر في إحدى رواياته - أذكر حجم البلية التي أحاطت بأهلي ومجتمعي وبكل ما يحيط بي حينها، ومنذ ذلك اليوم تسكنني وتسكن وعيي ووعي أمثالي وتأسرني وتأسر أمثالي صورة كمال جنبلاط مسجى ورفيقيه الشهيدين حافظ الغصيني وفوزي شديد،

وقد أحاطت أمهاتنا بجثمانه  وتحوّلن إلى ندابات أبديات لحزن أبدي، وشيّعه آباؤنا بدمع القهر والرصاص المكبوت وبشعور من الغدر نتوارثه بصمت، دون عناء وطقوس جيلاً بعد جيل وبسؤال مرير: لو كان هذا الرجل الفارع إنسانية وعروبة، ابن أقلية محمية أو ابن اكثرية محظية في شرق مريض بعصبياته الوليدة والمكتسبة، فهل كان ليغدر ويذبح في وضح النهار؟

منذ ذلك النهار تحولنا الى جماعة ثكلى، ذبيحة، حزينة ومغدورة، تتكور حول ضريحه وتورث أبناءها حزنًا أبديًا وسؤالًا مباهيا: هل حقا خرج هذا الرجل من لدننا وطينتنا؟ 

السؤال الآخر الذي كنّا لا نحفل له لأن جوابه ينتمي الى حيز السياسة لا الفجيعة ولأن إجاباته أكثر من أن تحصى كان: لماذا قُتل كمال جنبلاط؟ والإجابات تكاد لا تتوقف لكنها جميعها تقود الى محصلة واحدة: لأنه شكّل استثناءً ونقيضًا أخلاقياً وفكرياً وفي آخر المطاف سياسيًا للسياق الذي أريد لأمة العرب المحتضرة وفق تعبير الكاتب أمين معلوف في كتابه "غرق الحضارات"، أن تسلكه ولأنه كما يصفه رفيقه المناضل نديم عبد الصمد الوحيد الذي حمل هم الوطن وهم التغيير.
 
أتفه الإجابات وأحقدها على هذا السؤال هي تلك التي تضع استشهاده في سياق محلي، سياسي، قبلي، وزائف كنتيجة لصراع السلطة في لبنان الذي لم ينظر اليه كمال جنبلاط أكثر من وصفه بشارة وقاطرة لانطلاق مسيرة التغيير الديمقراطي في دنيا العرب على قاعدة عروبة حضارية تلتزم القضية القومية لكنها تستند الى قاعدة الحقوق والواجبات والمواطنة والإصلاح للسياسي والاقتصادي والاجتماعي،  ولا تستند الى تنظيرات العرق والدم والجهل.

مبرر مخاطرتي بهذه الكتابة هو سوال:

هل يعرف الجيل الجديد كمال جنبلاط بحقيقته الثورية أم أنه بالنسبة إليه واحدة من صور الانقسام الأهلي والحرب؟!

وفي زمن الصرخات التي تتعالى لإسقاط النظام السياسي اللبناني هل يعرف الجيل الجديد حقيقة أن كمال جنبلاط هو الوحيد في التاريخ اللبناني  الذي قدّم والحركة الوطنية التي كان يقودها مشروع تغيير جذري وجدي للنظام السياسي لا يزال الكثير منه يجيب على أسئلة التغيير في أيامنا قبل ان ندخل في أزمنة الصراع لأجل البقاء والحفاظ على الهوية؟!

وحده الحوار الذي جرى بين حافظ الأسد وبين وزير خارجية لبنان الأسبق فواد بطرس ينصف كمال جنبلاط، كما الحوار بين عبد الحليم خدام وفؤاد بطرس لأنه يوضح حقيقة ما مثله كمال جنبلاط من تحدّ لا بل تهديد لفكر ذلك السياق الضاري لتدمير امكانات النهوض بأوطاننا وأمتنا والتي انفجرت لاحقًا من داخلها  ويوضح حقيقة البعد المابعد لبناني لثورة كمال جنبلاط.

يقول فواد بطرس في مذكراته إن الاسد قال له: كمال جنبلاط انتهى ... وكل من يحسب عليه ينطبق عليه هذا الحكم سواء عقائديا او درزيًا ... هذا الرجل عرض سوريا ولبنان والمنطقة كلها للخطر .
أما خدام وزير خارجية سوريا في ذلك الوقت فيقول لبطرس: جنبلاط أهان الرئيس الأسد وحاول قلب الحكم في سوريا لكنه هزم ويجب أن يعامل على هذا الأساس.

حينها عُرض على كمال جنبلاط افتداء نفسه من الموت بالبقاء في مصر فكان جوابه: سأعود لأموت بين جماعتي وكان ما كان لأنه المؤمن والمجاهر بأن من يهرب من معركة الحياة كمن يهرب من معركة الحق، ولأنه كما قال عنه رفيقه في تأسيس الحزب العلامة الشيخ عبدلله العلايلي "من أهل اليقين لا من أهل الطين".

في ذكرى استشهاده، ستمنعنا الأمراض من أن نضع وردة على ضريحه وضريحي رفيقيه، لكنها لن تمنعنا من ان نضع وردة على روحه المتمردة وعلى فكرته الحرة الطليقة وسنورث من يستحق الإرث حزنًا دفينا لكننا سنورثه أملاً بشرق جديد.