Advertise here

أتوه بالرصاص كما أتوا سقراط بالسُّم

16 آذار 2020 08:49:02

بعد جولة عربية ودولية قادته صيف عام 1976، إلى البلدان العربية والعواصم الأوروبية، وجد كمال جنبلاط نفسه في ساحة المواجهة وحيداً؛ فقد تأكّد له بعد لقاءاته مع المسؤولين في البلدان العربية والعواصم الغربية، بأن هناك لامبالاة، وحتى تخلياً من قِبل بعض الدول العربية، وتورطاً من قِبَل بعضها الآخر، بمؤامرةٍ تستهدف الفلسطينيين والوطنيين اللبنانين.

كما لمسَ أيضاً تفويضاً عربياً ودولياً، وضمانةً إسرائيلية بعدم الاعتراض الضمني على دخول النظام السوري إلى لبنان، وذلك بهدفٍ ظاهره وقف الحرب الأهلية وحماية  المسيحيين، ومضمونه تحقيق حلمٍ طالما راود النظام السوري بالهيمنة على لبنان، مقابل ضرب التحالف الوطني اللبناني- الفلسطيني، وإجهاض مشروع  الحركة الوطنية الديموقراطي والإصلاحي. 

أثناء جولته العربية تلقّى جنبلاط نصائح مصرية، وجزائرية، وسودانية، من أعلى المستويات، بعدم العودة إلى لبنان لأن هناك قراراً متّخذاً بالقضاء عليه، ليس فقط سياسياً، وإنما جسدياً أيضاً. وقد  اقترح عليه كلٌ من الرئيس السادات والرئيس بومدين البقاء في بلديهما، وعدم العودة إلى لبنان. لكن، ومع أنه أدرك قَدَره المحتوم، قرّر العودة، ولم ينتظر أن تتأمّن له وسيلة مناسبة ولائقة لتقلّه إلى لبنان، فاستقلّ من السواحل المصرية سفينةً ليست مخصّصة للنقل البشري، والتي استُهدفت بقصفٍ إسرائيلي في عرض البحر، وفي مكانٍ ليس ببعيد عن السواحل اللبنانية. (الأنباء، عدد خاص. نيسان/ابريل 1977) (ن. م)

عند عودته إلى لبنان، شاهد القوات السورية وأجهزتها الاستخباراتية، وقد أحكمت سيطرتها بغطاءٍ عربيٍ وغربي على كل المناطق التي كانت تابعةً للقوات المشتركة اللبنانية- الفلسطينية، وبخاصة  على  تلك المحسوبة تاريخياً لجنبلاط، ومن ضمنها بلدة المختارة، والطُرق التي تصلها ببيروت، فأدرك حينها تماماً، بأنه بات أمام خيارين: إما الامتثال لشروط الواقع الجيو- سياسي المستجد، والتعامل معه بواقعية، مع ما يعني ذلك من انصياعٍ لأجهزة النظام السوري العسكرية والأمنية، والرضوخ لما يُتّخذ في دمشق من قرارات، أو الانخراط  بمواجهةٍ دونكيشوتية في ظل اختلال الموازين القائمة، وعدم قدرة الناس على التحمّل، وعدم وضوح الموقف الفلسطيني، واستشراس النظام السوري وأجهزته، وهو ما سيؤدي حتماً إلى بذل أثمانٍ بشريةٍ ومادية كبيرة وباهضة تتعارض ومبادئه الإنسانية والأخلاقية.
 

أمام هذين الخيارين الأمرّين، يبدو أن كمال جنبلاط تبنّى خياراً سقراطياً، حتى قبل عودته من جولته إلى لبنان، وذلك عندما أصرّ بعد إعلامه بمخطّط تصفيته الجسدية على عدم قبول الدعوة  لبقائه في مصر أو الجزائر، مصمماً على العودة السريعة إلى لبنان، وعدم توريط الناس بصراعٍ  فوق طاقتهم، مختاراً المواجهة بصدره، والتضحية بنفسه ذوداً عن مبادئه وأفكاره وقناعاته. 

لقد تصرّف جنبلاط أسوةً بسقراط، حينما تجرع السّم طوعاً وفاءً لقناعاته وأفكاره، وافتداءً لمن اتّهمته سلطات أثينا بتحريضهم، وامتثالاً لحكم القانون رغم إدراكه العميق بجَوره وظلمه. والأهم من كل ذلك هو أنه هزء بجلّاديه الذين ارتعبوا من السّم القاتل الذي تجرّعه باسماً، وهو القائل: إن الخوفَ من الموت هو ادّعاء الحكمة وليس حكمة، ومن يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً. وفي الحقيقة لا أحد يعلم، كما أن الموت الذي يعتقدونه الشرّ الأعظم، هو في الحقيقة ليس إلّا الخير الأعظم.

بدوره، كمال جنبلاط - الذي قال: "أموت أو لا أموت فلا أبالي... فهذا العمر من نسج الخيالِ... هو العمر يجري في دمانا، أما الحقّ المكون فألف حال..." - أدرك قَدَره كسقراط، وأصرّ عليه. وهل  هناك أدلّ على ذلك من طَلَبِه صباح يوم اغتياله في 16 آذار/ مارس 1977، من مسؤول تحرير"الأنباء" آنذاك، الأستاذ رشيد حسن، تذييل افتتاحيته الأخيرة بعبارة، "ربي اشهد أنّي بلّغت"، وذلك قبل أن ينطلق إلى بيروت وتحصل عملية اغتياله بعد ساعاتٍ قليلة، وعلى بُعدِ بضعة كيلومترات من دارته؟!.

استقبلَ كمال جنبلاط رصاصات الغدر، كما أسماها الشاعر الجنوبي شوقي بزيع، هازئاً بالقَتَلة  وبمن وراءهم. وبدل أن يرتعب من رصاصاتهم التي لو "رأت عينيه لاعتذرت" ارتعبوا هم من هدوئه، وسكينته، وابتسامته التي ارتسمتْ على محيّاه، وسخرت من غدرهم وتجرّدهم من مبادئهم وأخلاقهم. والدليل على ارتعابهم كان هرَبهم تاركين السيارة التي استقلوها لارتكاب جريمتهم، وفيها الأدلّة الكافية التي أدّت إلى إثبات هويتهم وجرمهم.(مذكرات قائد الشرطة القضائية السابق، العميد  الراحل، عصام أبو زكي، ومشاهداته وأحاديثه الصحفية).

رفض سقراط الانصياع للحاكم والتراجع عن أفكاره وآرائه، لكنه امتثل لروح القانون، وليس لحكمه المجرّد من الحق والعدالة، فتجرع السّم طوعاً، ليستمر وبعد آلاف السنين، شهيداً للحقيقة ورمزاً للحكمة واحترام القانون. وكمال جنبلاط- الذي وصفَ شوقي بزيع، شاعر "جبل الباروك"، دَمَه السائل بدم القدّيسين لا يتخثّر ولا يتجمّد- كذلك رفض الانصياع للاستبداد والتراجع عن أفكاره ومبادئه التي كافح من أجلها عشرات السنين، لكنّه امتثل لنداء الأجيال وروح الثورة وقيَمها، وتجاهل، رُبّما لأول مرة، قوانينها الوضعية منتظراً الرصاصات القاتلة بابتسامةٍ ساخرة، ليصبح، وعلى مدى الأزمان، شهيداً للأخلاق والمبادئ، ورمزاً للكفاح بوجه الاستبداد من أجل العدالة، والتنوّع، والكرامة الإنسانية.