Advertise here

المعلّم والجاهل

15 آذار 2020 01:55:00 - آخر تحديث: 05 شباط 2021 19:50:33

يطلّ علينا مجدداً السادس عشر من آذار، ذكرى استشهاد المعلّم كمال جنبلاط، فنستعيد بالذاكرة حياة هذه الشخصية الخالدة وما رافقها من أحداثٍ على المستويَين الوطني والعربي، ونتوقف في لحظة تأمُّلٍ نقارن فيها الأوضاع العامة والتغيّرات التي رافقتها خلال العقود الخمسة الأخيرة، في محاولةٍ لفهم ما وصلنا إليه، ولسبر غور القادم من الأيام.

ارتسمت معالم الأحداث في بداية العقد الثامن من القرن الماضي بصراعاتٍ دولية وإقليمية عديدة، وكان محرّكها الأساسي تأمين استمرارية وحياة الكيان الصهيوني الهجين، وسيطرة أميركا، وحلفاؤها الغربيين، السياسية والاقتصادية على البلدان العربية، بغرض فرضِ الهيمنة على النفط العربي من خلال تفتيتها وعزلها، وتنصيب حكام خاضعين لأسيادهم، مستبدّين لشعوبهم. وكان الحدثُ الأساسي الذي حدّد معالم تلك الفترة هو اغتيال المارد العربي الكبير جمال عبد الناصر في العام 1970. 

فالقائد الناصري، صديق كمال جنبلاط الذي آمن بالوحدة العربية، وقاتلَ الكيان الصهيوني، والمشاريع الاستعمارية في المنطقة، كان يشكّل العقبة الأساسية أمام استمرار هذا الكيان ونجاح هذه المشاريع، فكان الاغتيال بداية السقوط العربي الكبير. 

وكانت يومها الحركة الوطنية اللبنانية قد انطلقت في خطوتها الأولى رافعة شعار عروبة لبنان في ظل الانقسام الحاد بين أطياف المجتمع اللبناني حول رؤيتها للنظام السياسي المطلوب. وكان يومها كمال جنبلاط يقول إن المواجهة هي مواجهة لبنان الغد الحقيقي الذي سنبنيه بمتابعة النضال حتى إلغاء الطائفية السياسية، وإحلال العلمنة الكاملة في الدولة.

المعلّم الذي تتلمذ على يد المعلّم شري أتمانندا، وصقل رؤيته الروحية من خلال تعاليمه الهندوسية، تماهى مع سفرات الأفكار في عالم اللامحسوس، وتماشى مع طاغور في رؤيته للفراشة التي لا تحصي الشهور التي تمرّ بها، بل اللحظات التي تعيشها، فكان لديه الوقت الكافي للقيام مراراً وتكراراً في سبر بحر العلم الحقيقي. هذا البحر الذي لن يهدأ يوماً، كما قال أرسطو، وفي الغوص في ثنايا الأفكار خارج إطار التقليد المعروف، فجالَ في فضاء العلماء من خلال التخاطر الذي أتقنه. وعلمَ أن الحياة تنسج على منوال المعرفة، وقوة الحق، والإرادة، والثبات، والمبادئ الأخلاقية الراسخة، وأن الموت ليس إلا نسج خيال، فلا موت بل ولادة جديدة، أو في الحقيقة المباشرة استمرارية لامتناهية. فقال إن "الحياة في أصالتها ثورة، فكن ثائراً على الدوام"، لذلك فإننا لا نستطيع إلّا أن ننتسب إلى هذه المدرسة الفكرية، وأن نلتحق بكل ثورةٍ من أجل الحق والعدالة والديمقراطية. فكيف لا وهو الذي آمن أنّ على الأجيال القادمة أن تمتطي سلّم الحرية، والسعادة، والمجد الإنساني الكامل، على آلامنا وجروحنا وأصفادنا ودمائنا المبعثرة.
دخل الصراع اللبناني مرحلة الصراع العسكري المباشر في العام 1975، أو ما يعرف بالحرب الأهلية اللبنانية. وتأسّست "الجبهة اللبنانية" بمواجهة "الحركة الوطنية اللبنانية، هذه الحركة التي حققت انتصارات عسكرية كبيرة، وبسرعة قياسية، بدعمٍ من عددٍ من الفصائل الفلسطينية، وكادت أن تسيطر على كامل الأراضي اللبنانية لولا دخول الجيش السوري وبعض وحدات الجيوش العربية في العام 1976، بتحالفٍ سُمّي "قوات الردع العربية"؛ هذه القوات منعت سقوط النظام اللبناني الطائفي يومها، والتي ما لبثت أن وضعت يدها على البلاد والعباد، وعاثت في الأرض خراباً ودماراً وفساداً. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المعضلة الأساسية يومها كانت تشبّث اليمين اللبناني بالنظام السياسي القائم الذي يؤمّن له مصالحه الضيّقة، وإصرار القوى الوطنية على التغيير نحو دولة علمانية ديمقراطية، وعلى احتفاظ القوى الفلسطينية بسلاحها من أجل تحرير فلسطين المحتلّة.

إن الصراع اللبناني- اللبناني يومها، وإن تعدّدت أسبابه وغاياته، ما كان يجب أن يترافق مع صراع عسكري، وما كان يجب أن يستعين أي من الفرقاء في لبنان بالجيوش غير اللبنانية، أكانت فلسطينية أو سورية أو غيرها. وكان على القوى السياسية كافةً الدخول في حوار عقلاني بهدف التغيير الديمقراطي للنظام السياسي الطائفي، وللانطلاق بلبنان إلى نادي الدول المدنية الديمقراطية. لكن تغلّبَ يومها منطق القوة والسلاح بتشجيعٍ من الخارج، ودخلنا أتون حربٍ عبثيةٍ مدمّرة استمرّت لغاية العام 1990، وكانت أولى خسائرها الفادحة اغتيال المعلّم كمال جنبلاط في السادس عشر من آذار 1977. 

إن منطق الاستعلاء والاستقواء الذي أدخلنا في حربٍ امتدّت لخمسة عشر عاماً، لا زال قائماً للأسف ليومنا هذا. فبعد كل الخسائر الفادحة في الأرواح وفي الممتلكات، وبعد الانهيار المالي والاقتصادي، لا زالت الذهنية السياسية العقيمة هي الأساس في التعاطي، ولا زالت الدويلات عامرة، ولا زالت المحاصصة سائدة، ولا زال استغلال المشاعر الطائفية للناس العنوان الأساسي للحملات الانتخابية. 

إن المنظومة السياسية الحاكمة هي بمعظمها منظومة لا- أخلاقية جاهلة. فالشخص لا يمكن أن ينفصل عن المبدأ، ولا يمكن أن ينفصل المبدأ عن الشخص، كما قال المعلم، حيث يُفترض أن يكون للفرد نظامٌ للأخلاق والمناقبية في داخله، وفي علاقاته مع الآخرين. فالنظامان، نظام المجتمع ونظام الأخلاق متلازمان متصلان لا يقوم أحدهما بدون الآخر، وإلّا سقط الفرد وفسد المجتمع، واضمحلّت الحضارة، وتبعتها في اضمحلالها جميع مكاسبها المادية. فالصراع الأساسي إذن هو الصراع بين المعلّم والجاهل: المعلّم الديمقراطي المتواضع صاحب الأخلاق العالية والمبادئ الراسخة، والجاهل المتسلّط النرجسي صاحب المصالح الضيّقة والمبادئ الموبوءة. فهذا السقوط الأخلاقي، والمالي، والاقتصادي، والصحّي كذلك، ما هو إلا بسبب السقوط الأخلاقي عند معظم أفراد الطبقة السياسية الحاكمة، أو بالأحرى "الكارتيل" الحاكم الذي يملك في الوقت عينه نسبةً كبيرة من المنظومة المالية المتمثّلة بالمصارف، والذي يحتكر استيراد العديد من السلع الغذائية والبترولية، والذي يملك السيطرة المالية والسياسية على معظم وسائل الإعلام المحلية. 

انطلاقاً من الواقع اللبناني الراهن، وللاستفادة من الأخطاء الكبيرة السابقة، وبعد انطلاق ثورة 17 تشرين، لا بد أن نكرّس الديمقراطية، كما عرّفها كمال جنبلاط، بحكم الرأي السليم، وتفاعُل النخبة الصالحة مع الناس والاحتكام للقانون، والتي يجب أن تتحقق بطرق ديمقراطية تبدأ بانتخابات نيابية على أساس قانون علمي ومنطقي، تصل من خلالها نخبٌ صالحة متواضعة مثقفة وواعية تسعى لتطوير القوانين وعصرنتها، وصولاً إلى دولة مدنية تحمل معها بذور العدالة والسعادة لعموم الشعب اللبناني، نخب قوية ومؤمنة، فالخائفون لا يصنعون الحرّية، والمتردّدون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء. نخبٌ تسعى لبناء نظام اقتصادي متين يمكّن الدولة من تغطية نفقاتها العامة من خلال إيراداتها الذاتية، فالذي لا يستطيع إعالة نفسه، لا يمكنه اتّخاذ قرار بنفسه (عبد الناصر).

وفي الختام استذكر ما قاله المعلّم الشهيد كمال جنبلاط عام 1953، "إنَّ الثورة الشعبية مستمرّة، وهي تتقوّى في كلّ يوم بزيادة وعي الجماهير لمصالحها الأساسية في الحياة، وإنَّ لا مساومة مع رجال العهد البائد. وكلّ من يساوم منّا، في غير الحقّ والمصلحة العامّة، فهو خائن".

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".