Advertise here

إبحار في فكر المعلم

14 آذار 2020 16:51:48

جرت العادة أن نحجّ كل عام، في 16 آذار، إلى قصر المختارة، نكحّلُ عيوننا برؤية حضرة الرئيس القائد وليد جنبلاط، ونضع وردةً على ضريحِ المعلّم الشهيد كمال جنبلاط الذي نستذكره أقوالاً وأفعالا. نستذكره أفكاراً تتسع لاحتواء الحقيقة. ونستذكره إنساناً يضجّ طاقةً، وحيويةً، وتواضعاً. فكل ذكرى وأنتم، حضرة الرفيق الأول وليد جنبلاط، وحضرة الرفيق الواعد تيمور جنبلاط، وحضرات الرفاق قيادةً وأعضاءً، وحضرات المناصرين الأوفياء بألف ألف خير. والتزاماً بالإلغاء القسري لمراسيم الذكرى الخالدة، واستكمالاً للجهود التي يبذلها الحزب، ورئيس الحزب، في مكافحة الوباء المستجد "كورونا"، لتكن الوردة هذه المرّة إبحاراً في بساتين فكر المعلّم.

أما بعد،
فبينما كانت دهشة وإعجاب المثقفين بالماركسية، والتي دعت إلى تملّك الدولة لوسائل الإنتاج، جاعلةً من الاقتصاد الكل بالكل، ودعت لحكم البروليتاريا التي تنتصر على أرباب العمل البرجوازيين، وتلك التي لم تعِر أي اهتمام للحريات وللملكية الفردية، كان للمعلّم الشهيد كمال جنبلاط كلامٌ آخر مفاده أن لا فرق بين ديكتاتورية الحكّام والملوك، وديكتاتورية البروليتاريا.

وبينما كانت دهشةُ وإعجاب المثقفين بالقومية الاجتماعية السورية، والتي ضخّمت الصفة الاجتماعية وجعلتها الكلّ بالكل، ذهب المعلّم متوغلاً في أصلها وفصلها، معتبراً أن لا عجب أن يكون لهؤلاء مفهومٌ خاطئ عن الحرية، فيخلطون بين الحرية والجهد في سبيل الوصول إلى الحرية، والإبقاء على الحرية، وذلك كمن يخلط بين الطريق وبين الهدف، أو كقولهم "الحرية صراع"، بينما الحرية هي طمأنينة داخلية عميقة ناجمة عن معرفتنا للحقيقة. الحرية هي شعور النفوس التي دخلها اليقين، يقين المعرفة، واستقرت فيها القوة المعنوية، قوة السيادة على انجذابات الحياة... وهي شعورنا بأننا نحن أسياد  مصيرنا، لا أتباع أذلاء لتأثيراتنا وانحرافاتنا وأفكارنا.

وبينما كانت دهشة وإعجاب المثقفين بالثورة الفرنسية، وبما استجدّ من تطورٍ على المستوى الإنساني، وما أنتجته من قيَم: الحريات العامة، والمساواة، والديمقراطية، كان للمعلّم الشهيد كمال جنبلاط، كلامٌ آخر. فالمساواة جاءت عددية، بينما المساواة المثلى تكون في الحقوق، والواجبات، وصهر الأفراد والجماعات التي يتكوّن من اختلافها وانسجامها المجتمع ككل، وهي مساواة عضوية تأخذ بعين الاعتبار التفاوت الطبيعي في المواهب، والمقدرة، والكفاءة، والأخلاق؛ كما أن الديموقراطية التي نشدتها الثورة الفرنسية تعتمد الفرد، لا الشخص أو الشخصية. والفرد هو إنسانٌ بالقوة لا إنسان بالفعل، والاجتماع البشري ليس عقداً اجتماعياً بين الأفراد - خرافة روسو - بل هو كلّ عضويّ حيويته في تنوّعه، وهكذا لا يقوم، ولا يوجد، المواطن الفرد بدونه. 

والديموقراطية في النُظم الغربية، تقف عند حدود الوجه السياسي، الذي يتمثّل بالمشاركة السياسية العادلة من خلال الانتخاب (رؤساء - برلمانات - مجالس محلية، إلخ...) وتداول السلطة، والفصل بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وعلى أهميتها بالطبع، لكن للمعلّم كمال جنبلاط المزيد من الكلام مفاده أن للديمقراطية وجهاً آخر ركيزته تزاوج العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، وذلك من خلال إعادة توزيع الثروة، وتوازن الملكية على محاور ثلاث: ملكية عامة - أي امتلاك الدولة للقطاعات التي تؤثّر في حياة المواطنين (كهرباء - مياه - هاتف - آبار نفط - إلخ...)، وملكية تعاونية ترعى حقوق المزارعين والصناعيين وتحميهم من جشع التجار، وملكية فردية، أو خاصة، صغيرة والتي تؤمّن الاستقرار والطمأنينة للسكان.

هذا بالإضافة إلى تكافؤ الفرص قدر الإمكان، وتأمين شروط العناية الصحية الوقائية والعلاجية، والاهتمام بالسكن الصحي، ونشر المعرفة من خلال الأفراد، والمؤسّسات، والأحزاب والجمعيات، ورفع المستوى الثقافي، وخلق الإنسان الجديد الممتثِل طوعياً للنظام الديمقراطي عن وعيٍ وإدراك، وبناء قاعدة فكرية متينة - لرفض البنى المتخلفة السائدة - تحمي هذا الإنسان الذي يحتكم فقط للعلم والعقل، وتجنّبه السقوط في فخّ المقولات الجامدة، وترفع عنه استغلال تجار الفكر الغيبي، والظلامي، الذي يكرّس الخزعبلات والفتاوى المغرضة، وبناء قاعدةٍ فكرية تؤسّس لمجتمع الكفاية والعدل، وتنشط من خلالها عملية البحث عن الحقيقة.