عذراً منك يا معلّمي. عذراً لأن حلمك لم يتحقق حتى الساعة. عذراً لأننا لم نفِ بوعدنا حتى الساعة. وعذراً منكَ يا معلّمي وألف عذر. كيف لا و"أخالها طلقات الغدر حين هوت، تكاد لو أبصرت عينيك تعتذر..."
عذراً منك يا معلّمي، فاتنا من الوقت ما يكفي. طال الزمن، وطال معه صبرنا. استخفّوا بنا. حاولوا تهميشنا، ولهم جولات وجولات من الفشل الذريع وبقينا كما نحن، وكما كنّا، لا بل أكثر إصراراً ممّا يعتقدون، وأكثر عزماً ممّا يتخيّلون، وأكثر ثباتاً ممّا يتصوّرون. لم نهدأ، ولم نهنأ، ولم نستكِن.
عذراً منك يا معلّمي على حيرتي، وعلى غيرتي. غيرتي على كل من رافقكَ على درب النضال. لكل من رافقكَ على درب الحرية، ولكل من مشى خلفك على درب الكمال.
وعذراً على حيرتي، بين نعمة غيابك ونقمة غيابك. فهي نقمةٌ لا ريب فيها. نقمةٌ جعلت من يومك هذا صفاً واحداً يَقهَرُ ولا يُقهَر. في وجه الفتنة وقفنا. في وجه التقسيم ثرنا. في وجه الطائفية السياسية مانعنا. في وجه الوصايات الأجنبية صمدنا، في وجه كل من مسّ في قداسة لبنانيّتنا باقون. حملنا وصاياك على الأكتاف قبل نعشك، ودفنّا الخوف حارساً مع جسدك، وتجلّى فكرك في عقولنا، وحديثنا وكتاباتنا. وكان الوليد نعمةً بعد نقمة، وكما كنّا معك، معه كنّا.
أمّا عن نعمة غيابك فهي أنك غائب عن هذا العصر، وانحطاط هذا العصر. والحمد والشكر لأنك لستَ هنا كي لا ترى ماذا فعلوا بلبنان الذي أحببتَه، وبالسلام الذي ناجيتَه، وبفلسطين القضيّة. فلسطين العروبة التي تاجروا فيها، وسمسروا على بيعها. والعروبة التي زايدوا علينا بها، ولم يزيدوا شيئاً عليها، لا بل سلبوها، وتاجروا فيها، وباعوها بأبخس الأثمان.
نعمةٌ يا معلّمي لأنك غائبٌ عن هذا العصر، عن هذا الزمن الرديء. زمن الأوغاد الذين ما زالت أياديهم السوداء تتسلّل في مستنقعات الحقد، مستغلّةً أطماع هذا وذاك، متسلّطةً على ضعيفي الأنفس، وأصحاب الهويّات الزائفة.
فبعد رحيلك يا معلّمي بقي النظام نفسه، ولكن تغيّرت الأساليب. تبدّلت الأحوال ولم نتغيّر. مستمرون على نهجك في حريّتنا، في لبنانيّتنا، وفي عروبتنا...
حاولوا محاصرتنا، وفشلوا...
حاولوا تحجيمنا، وفشلوا...
حاولوا إسكاتنا، وفشلوا...
حاولوا إنهاءنا، وفشلوا...
إنهم فاشلون، حاقدون، خبيثون...
لا يعلمون بأننا عن الحق مدافعون، والموت حقٌ، وإلى سبيل الحق متشوِّقون. فنعم يا معلمي، هي نعمةٌ أنك لم تعاصر الأنذال مِن مَن نعاصرهم نحن، لأنك أكثر علواً من أحقادهم وأطماعهم، لأنك أرقى من مقاماتهم، ولأنك، وباختصار، أسمى من أخلاقهم.
ففي يومك هذا، نجدّد العهد والولاء لمسيرةٍ عبَّدتَ دروبها بدمائك الطاهرة، وأنرتَ دروبها بفكركَ اللامع، ووثّقت خطواتنا عليها بمبادئ تربّينا عليها.
وقفنا إلى جانب الوليد، ووقفنا خلفه وأمامه، في وجه هذا الظلم الشديد، وهذا الحقد العنيد.
ففي يومك هذا يا معلمي، جئنا لنقول لك أن لا تقلق، ولا تخف علينا. طريقنا هو التحدّي، والإنسانُ ثائر بطبعه، ونحن في الحق ثائرون. طال الحلم كما غيابك، وبتحقيق حلمك حالمون، جاهدون، مثابرون، مناضلون، وفعّالون... فوعدٌ منّا أن لا نخِلّ بوعدنا معك. قد تطول المدّة، ويبقى فينا الصبر لا يزول. إرثك هو إرثنا، ونحن عليه محافظون. ولا بدّ للّيل أن ينجلي، ولا بدّ للقدر أن يستجيب، والغَدُ لناظِرِه قريب. سنحقّق ذاك الحلم السرمدي، وننقل فكرك من جيلٍ إلى جيل.