Advertise here

الشمال السوري مجدداً ساحة اختبار دولي – إقليمي

10 آذار 2020 05:10:00

يستمر اتفاق وقف إطلاق النار هشاً في إدلب شمال غرب سوريا منذ دخوله حيّز التنفيذ فجر الجمعة في 6 آذار الجاري، وذلك بعد ست ساعات من المحادثات التي أجراها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في موسكو. وعلى الرغم من الخروقات والانتهاكات المتعددة التي نفذتها الميليشيات الموالية للنظام السوري، وكان آخرها تعرّض دورية تركية لرشقات نارية، يصرّ طرفا الاتفاق على التمسّك بتنفيذ كامل بنوده على اعتباره اتفاق الضرورة، كما وصفه أحد المراقبين الأتراك.

الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بعد معارك عنيفة تمكنت قوات النظام من خلالها تكبيد القوات التركية، وفصائل المعارضة السورية الحليفة لها، خسائر سياسية ومعنوية وميدانية. 

كما استعادت طريق دمشق – حلب M5 الاستراتيجية، ومحاصرة نقاط المراقبة التركية في إدلب، كما أدّت إلى نزوح ما يقرب من مليون شخص خلال ثلاثة أشهر في شمال غرب سوريا.

لقد اكتشفت تركيا، من خلال المعركة الميدانية، حدود الدعم المتوقع من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومدى صدقية الكلام الأميركي الداعم لها، والذي يحمل رسالة واضحة لأنقرة بضبط حدود دورها في المنطقة. كما تبيّن أيضاً أنه لولا إحجام موسكو عن تأمين الغطاء الجوي لقوات النظام وحلفائه لمدة ساعات فقط، ما كانت لتتمكن من تكبيد قوات النظام والميليشيات الإيرانية الخسائر الفادحة، وهذا ما يضع السوري والإيراني في خانة السقف الروسي.

لقد أدركت روسيا أيضاً أن تجاوز الخطوط الأميركية في شرق الفرات قضية خاسرة، وذلك مهما قيل عن انسحاب أميركا من المنطقة، حيث العكس تماماً هو ما حصل في شرق الفرات، أي أنه تمّت إعادة انتشار للقوات الأميركية وتعزيزها. وكانت قد سعت روسيا إلى مدّ جسور التواصل بين الأكراد ودمشق من أجل تعزيز الحضور الروسي في شرق الفرات لكنها فشلت في ذلك، وهو ما أدّى إلى احتكاك عسكري مباشر مع الدوريات الأميركية، وقصفٍ أميركي للقوات التابعة للحرس الثوري الإيراني شرق دير الزور والميادين والبوكمال.   

لذا، وبعيداً عن اتفاق موسكو الأخير الذي قبلت به تركيا على مضض، والذي تستعد قوات النظام وإيران للانقلاب عليه، يتحول الشمال الغربي لسوريا إلى مسرحٍ لصراعٍ دولي – إقليمي تخوضه الدول الضامنة للقاء "أستانا" فيما بينها (روسيا، تركيا، إيران) بغية تعزيز حصة كل منها تمهيداً لتقديمها ضمن أوراق اعتماداتها إلى واشنطن.

فروسيا تعتقد أن الاستثمار في القتال الميداني عبر الجيش السوري والحرس الثوري، يخدم استراتيجيتها بانتزاع شراكةٍ راسخةٍ ومضمونة مع واشنطن. أما طهران فلا تملك أوراق ضغط في سوريا إلّا بتصعيد وتعظيم حصّتها في الداخل وعبر النظام، ولذلك يشكّل ربط مدينة حلب مع دمشق، وحلب مع اللاذقية، فرصةً لمراكمة الأوراق الوازنة لها. فطهران ودمشق تذهبان أبعد من موسكو في السعي لتحقيق انتصار كبير في إدلب، يعوّض عليهما الخسائر في أكثر من موقع، وبعيداً عن المطرقة الجوية الإسرائيلية.

لكن حسابات موسكو الدولية مع واشنطن، وحساباتها الإقليمية مع إسرائيل، لا تسمح لحلفائها في "أستانا" الاقتراب منها، لأن التفاهمات الأمنية العميقة في المثلث (واشنطن – تل أبيب – موسكو) أقوى وأكثر ثباتاً مما تذهب إليه دمشق وطهران، وهذا ما يجعل موسكو قادرة على المناورة الواسعة، والتعامل مع كافة الأطراف الأخرى بمعيار الاستخدام، وحساب الربح والخسارة.

لذلك فإن تركيا المثقلة بأعباء النزوح، وأزمتها التاريخية مع الأكراد، غير قادرة على تحمل أعباء الهزيمة في حلب، وخاصةً طريق دمشق - حلب، فكيف بها الحال إذا التزمت بالاتفاق مع روسيا الذي يقضي تسيير دوريات مشتركة على خط اللاذقية - حلب (M4) وتوفير الممرات الآمنة له. هذا عوضاً عن مشكلات أردوغان مع واشنطن وأوروبا والمحور الغربي، وتصاعد المعارضة الداخلية التركية التي لا سبيل لكبح جماحها سوى إعلاء شعار "الدفاع عن الأمن القومي التركي"، حيث لا يختلف اثنان على أن تجاوز الجيش السوري لنقاط المراقبة التركية وحصارها، وكذلك القصف الروسي – السوري، والخسائر البشرية التي لحقت بالأتراك، شكّلت ذرائع قوية سهّلتا إطلاق الحملة العسكرية التركية (درع الربيع) والتي لم تنتهِ بعد، ولا يبدو أنها ستتوقف.

المراقب التركي يرى أن قبول تركيا باتفاق موسكو لوقف إطلاق النار "مؤقت"، وهدفه التأكيد لموسكو، "أن تركيا لن تدخل في مواجهة مباشرة معها"، حتى إذا توفرت لها قواعد (الباتريوت) للردع الصاروخي الأميركية. كما أنها، وقبل استكمال معركتها، تريد الاطمئنان إلى الخلفية الأوروبية في مسألة اللّاجئين السوريين، وتنفيذ الوعود الأوروبية المتفق عليها عام 2016، لناحية تقديم الدعم المالي لتركيا مقابل وقف النزوح عبر أراضيها إلى دول الاتحاد.

كما تريد تركيا توفير الدعم السياسي والأمني والعسكري من دول الاتحاد داخل حلف الشمال الأطلسي، إذا ما استدعى الأمر لذلك، لا سيّما خلال معاركها في شمال غرب سوريا إذا ما تفاقمت الأمور وانزلقت نحو مواجهة مباشرة (روسية - تركية)، حيث تصرّ أنقرة على بسط سلطتها على حدود منطقة اتفاق سوتشي، فيما يسعى النظام وحلفائه إلى استعادة إدلب وصولاً إلى الحدود التركية. 

فأي موجةٍ جديدة من اللاجئين ستزعزع استقرار أوروبا، وأي تقدير خاطئ من قبل المتحاربين قد يشعل المنطقة وستكون عواقبه وخيمة.