Advertise here

لماذا تستقوون بغيركم؟

10 آذار 2020 07:00:00

ليس ثمة مقدّسات في السياسة. المقدّسات لها مساحتها في الدين. أما في السياسة، فالمسألة تتعلق بحسابات أخرى. هذا لا يعني أن ممارسة السياسة يفترض أن تكون خارج المعايير الأخلاقية ولكن هذا شيء والمقدسات شيء آخر. بل على العكس، المطلوب إستعادة الجانب الأخلاقي في الممارسة السياسية وهذا ليس أمراً مستحيلاً لا سيما إذا كان المطلوب الإصلاح الحقيقي بعيداً عن الشعارات الفارغة!

طبعاً، ليست مناسبة هذا الكلام إعادة إنتاج الإشكالية بين الدين والسياسة التي لم تنتفِ يوماً (والنظام الطائفي اللبناني أحد تجليات تلك الإشكالية)، بل المطلوب التفريق بين هذه المسارات والتأكيد على الصفة "الواقعية" للعمل  السياسي لا سيما بالنظر إلى الإشكاليات والتعقيدات التي تحيط به.

مناسبة هذا الكلام تتصل بإتفاق الطائف وهو كسواه من الدساتير والوثائق السياسية ليس مقدساً، إلا أن هذا لا يلغي ضرورة وضع الأمور في نصابها فيما يتعلق بهذه الوثيقة التي كلفت اللبنانيين نحو 150 ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى بعد 15 سنة من الحرب الطاحنة التي دمرت مختلف المناطق والقطاعات.

ثمة قوى سياسية تفاخر أنها تُعدل "الطائف" بـ"الممارسة" وتعتبر أن "الرئيس القوي" الذي إنتخابه سنة 2017، أي العماد ميشال عون (الذي شهد النصف الأول ولايته الرئاسية تقهقراً وتراجعاً وإفلاساً و"الله يستر" من النصف الثاني!) كفيل بإستعادة الصلاحيات "المسلوبة" وفق إعادة توزيع النفوذ السياسي كما حصل في إتفاق الطائف، إذا صح التعبير.

بالتالي، إذا كانت نصوص "الطائف" قد أصبحت بغالبيتها العظمى نصوصاً دستورياً، فمعنى ذلك أن أولئك النواب (الذين يُفترض أنهم مؤتمنون على التشريع وإصدار القوانين وإحترام تطبيقه) يفاخرون بخرق الدستور ودائماً في سبيل سياسات شعبوية وفئوية ومصلحية ضيقة!

أما الأطراف الأخرى التي تعدل موازين القوى بالممارسة ولا تفاخر بذلك علناً، فلعلها بدورها تستبطن تعديل "إتفاق الطائف" ولكن عندما تحين اللحظة الإقليمية المؤاتية وتتيح الظروف القيام بذلك.

إذن، المشكلة ليست في الرغبة السياسية بتعديل المواثيق، فهذا حق مشروع في الأطر الديمقراطية  والسياسية والمؤسساتية (ولو أن الطرف السياسي المتمثل اليوم بـ "العهد" تجاوز كل تلك الأطر مراراً وتكراراً من خلال سياسة التعطيل المنهجي التي مارسه تحقيقاً لمآربه الخاصة).

المشكلة الحقيقة تكمن في مفصلين: الأول: إستخدام بعض القوى لما قد يُصطلح على تسميته "فائض القوة" (وقد يكون متوفراً لدى سواها وليس لديها بالضرورة فتراها تستقوي به!) لإحداث هذا التغيير؛  والثاني: أنها لا تفصح عن ذلك مباشرة بل مواربةً وبشكل غير مباشر.

لماذا لا تخرج تلك القوى لتعلن صراحةً أنها تريد تعديل "إتفاق الطائف" وتحدد تالياً موازين القوى التي تريد تثبيتها في المعادلة السياسية الجديدة؟ لماذا لا تملك تلك القوى الجرأة السياسية والأدبية لإعلان ذلك؟

خلاصة القول أن المطالبة بالتغيير محقة ومشروعة، ولكن الوصول إلى صيغة جديدة قد تكون دونه صعوبات وعقبات جّمة، فـ"الطائف" ولد في لحظة تفاهم أميركي-سعودي-سوري كان كفيلاً بوقف النزاع المسلح والعودة إلى السلام والاستقرار. أما اليوم، فإن البحث في صيغة جديدة دونه مشاكل كبيرة أبرزها عدم توفّر أي مناخات للتقارب بين القوى المؤثرة في الساحة اللبنانية، لا بل هي تقف على طرفي نقيض، ما قد يجعل هذه الساحة عرضة مرة جديدة للإنفجار من الداخل بإيعاز من الخارج، ونحن بغنى عن هذه التجربة المرة مجدداً.
 
إحترام الدستور والمؤسسات هي ثقافة بذاتها، كلما شعر اللبنانيون أنهم يقتربون منها، كلما "أبدعت" بعض القوى العبثية بتخريبها!