لم يمر لبنان، حتى في سنوات الحرب والأزمات الكبرى، بحالة اللّامبالاة السائدة اليوم. ولم يتعاط المسؤولون بهذه الخفّة التي تتحكم في يومياتنا. فالدولة، بكل مكوناتها، تسير بقوة الجاذبية ليس أكثر. أما الأخطر، فهو عند الطبقة السياسية الحاكمة التي انحدرت في آدائها وخطابها وأخلاقياتها. وأصبح السواد الأعظم منهم كالمياومين في السياسة، ينفذون ما يطلب منهم لا أكثر. مع كامل الاحترام والتقدير لمن يعمل بالاجرة من أجل كسب قوته اليومي.
مِنصة الرئاسة
تحولت رئاسة الجمهورية، في زمن التيار الوطني الحر، الى منصة لتنفيذ مصالح شخصية واضحة يمكن اختصارها بهدف وحيد: تمهيد الأرضية لتوريث "تاريخي" للموقع الأول في الجمهورية اللبنانية.
نعم، في الذكرى المئوية لتأسيس لبنان، وبعد الانتفاضة الشعبية العارمة التي انفجرت بوجه السلطة، وبدل ان تتجه البلاد نحو الجمهورية الثالثة الأكثر مدنية وتطوراً (من حيث منطق الامور وسياق التطور البشري)، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام نوع جديد وغريب من الوراثة السياسية (الموجودة في قاموسهم أصلاً) "وراثة رئاسة الجمهورية".
الأبرز في هذا السياق، ما رافق هذا المخطط المريض من خطاب طائفي - عنصري - فتنوي اعتمده رموز هذا التيار بقيادة دونكيشوت الجمهورية - صهر العهد القوي جبران باسيل.
أما المشهد الأشد غرابة، فيتجلى باستسلام الرئيس - الجنرال السابق، وتخليه عن واجباته وصلاحياته. وتصدر من بعبدا بيانات لا تغني ولا تسمن ولقاءات واجتماعات متفرقة وكأن البلاد بألف خير.
وبعد سبات طويل، يُطل علينا فخامته بخطاب "نفطي تاريخي عظيم" معلناً عن بدء أعمال التنقيب بعد طول انتظار! مطوّباً هذا الانجاز باسم صهره "أمير البحر"، مدافعاً عن تمسك تياره بوزارة الطاقة منذ سنوات.
تيار الأدوات والموظفين
تكاد تكون تجربة التيار الوطني الحر الوحيدة التي انحدرت بشكل دراماتيكي سريع من تيار سيادي استقلالي وطني الى تيار فئوي فتنوي مصلحي. فالقيادة الحالية للتيار انقلبت وبشكل جذري على الإرث النضالي الذي راكمه القادة المؤسسون للتيار (وجلّهم من الشباب)، وقامت بتصفية جميع الرموز التاريخية الذين أضحوا (بمعظمهم) خارج الجسم التنظيمي.
تم استبدال هؤلاء المناضلين بمجموعة من الموظفين والمتسلقين وأصحاب المصالح والنفوذ، ما يميزّهم، في اي موقع وزاري او نيابي او قيادي كانوا، استعدادهم المطلق لتنفيذ ما يُطلب منهم من دون أي خجل او نقاش او اعتراض. فأصبح التيار أداة لتنفيذ الطموحات والمآرب الشخصية ليس أكثر.
الأسوأ، الخطاب الذي اعتمده أركان هذا التيار تحت شعار زائف عنوانه "استعادة الحقوق" والقائم على مبدأ شد العصب تنفيذاً لمشروع "الوراثة السياسة"، وذلك عبر افتعال المشاكل شبه اليومية ذات الابعاد الطائفية والمذهبية والمناطقية، من خطاب نبش القبور قبيل الانتخابات النيابية والتذكير اليومي بمآسي الحرب الاهلية، الى واقعة الحمرا (تظاهرة مصرف لبنان) مروراً بحادثة قبرشمون الأليمة، الى غيرها من المواجهات الكلامية مع اكثر من جهة سياسية من حركة أمل وتيار المردة والقوات اللبنانية وانتهاء بتيار المستقبل..
تيار الصفقات والتقسيم
بيد أن ما يصبغ سياسة التيار في مقاربته لملفات المشاريع الكبرى والتعيينات، تلك الرغبة الجامحة للاستفادة من كل شيء، وذاك الجوع القديم لاحتكار كل شيء، لا داعي لبذل اي جهد من أجل اثبات هذا الكلام ولا داعي لتبيان الأدلة والبراهين، فملف صفقات الكهرباء، الذي كبد خزينة الدولة أكثر من 41 مليار دولار منها 31 ملياراً خلال تولي التيار لوزارة الطاقة، وحده يكفي.
لكن الاكثر خطورة، ما بدأ يسوّق له رئيس التيار من مشاريع تحمل ابعاداً فئوية - تقسيمية تحت مسمى اللامركزية الادارية الموسعة، معطوفة على تمسكه بإقامة المشاريع غير الضرورية في مناطق معينة كمعمل سلعاتا لتوليد الكهرباء والمنطقة الاقتصادية الحرة في البترون، إضافة الى ما يخطط ويسوّق له في ملف النفط والغاز..
حكم التاريخ
يمكن تلخيص فترة الحكم السابقة للجنرال ميشال عون (1988-1989) في عبارة واحدة: "حكم سنتين وعمِل حربين" (أي حرب الالغاء وحرب التحرير).. أما حالياً، فيمكن تلخيص ثلاث سنوات من حكمه بثلاثة عناوين: انتفاضة شعبية غير مسبوقة، انهيار مالي واقتصادي واجتماعي شامل، وباء قاتل يقرع الأبواب. هذا ما ستذكره الأجيال القادمة عن هذه الحقبة من تاريخ لبنان ومن حكم تيار العهد القوي. لذلك، تصح تسميته بـ "تيار الفشل الدائم".. التيار الذي لم ولن يتغير، لأنه وبكل بساطة لم يتعلم من تجارب الماضي، ومصيره الحتمي هو السقوط المدوي في السياسة وفي حكم التاريخ.