Advertise here

شويّا قلعة النسور

26 شباط 2020 20:58:55

تشغلُ شويّا في منطقة حاصبيا، هضبةً عالية ترنو بعينٍ إلى عرقوبها وجليلها في فلسطين، والعين الأخرى إلى جبل الباروك يلفحها بالعنفوانِ والعزّةِ والكرامة؛ فهي عليّة للقيَم تكلّلها عمائم بيضاء شريفة لمشايخَ أفاضل، وتحتضن في قلبها مزاراً للزاهد المعلّم، الشيخ الفاضل قدّس الله سرّه. أمّا شبابها فتفيض الأنفة والكبرياء من أفعالهم، وهم يتغنّون بعروبة فلسطين، ونهج الحرية والعدالة في مجتمعهم اللبناني.

منذ القدم يمتاز بُناتُها ووارثوهم بأسمى قيَم التصافي واحترام الاختلاف. وهذا ما بدا جلياً بين مكوّناتها العائلية في الانتخابات البلدية عامَي 2010 و2016. فالكل يحترم الكل، ويحترم حق الاختلاف في الرأي والرؤيا.

شويّا اليوم حزينة، ومعها كل أبناء الجيرة من حاصبيا وقراها، إلى شبعا العروبة وعرقوبها، فهي تشعر بالخسارة أمام القدر على شهمٍ منها، وراية من رايات وادي التيم منذ تمرسّه في الحياة. حمل في قلبه وعقله ووجدانه أسمى معاني الولاء للأرض وقيَمها وتاريخها وشهدائها، ولم يبخل بشيء من روحه، ولا من تعبه، وزرع الحبّ بين أبنائها، فصادق الأخيار، ورافقَ الأحرار. إنّه الحبيب، الرفيق، فضل الله محمد سعيد جماز.

لقد اختارت شويّا بمعظمها خيارَ العدالة، والحرية، وتكافؤ الفرص، ومفاهيم الشراكة، واتجاهات التطوّر مع المعلّم القائد الشهيد كمال جنبلاط، منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي. وسطّر العشرات من أبنائها أروعَ مظاهر البطولة والشجاعة في صفوف ثوار 1958، ولمعَت بين مجاهديها أسماء مضيئة أصبح معظمهم في ديار الحق، لكن لن تنساهم ذاكرة الأحفاد، وفي طليعتهم المرحومين المشايخ نايف أبو نجم، وسعيد أبو حمد الشوفي، وسليم ملحم بركات، وعلي أبو سعد، ويوسف ذوقان دعيبس، والكثيرين ممن تضمّهم لائحة الكرامة، وكانت لهم أدوارٌ عدّة أبرزها في سحق حماقة بعض عناصر الاستفزاز الأهلي في وادي ميمس، ومساندة ثوار عين قنيا الشجعان الذين كانت تعتز بتسميتها صخرة الإشتراكيين، وأمّنت الطريق إلى شبعا القيادة، ولم تبخل بعينٍ مراقِبةٍ على حاصبيا عاصمة الأحرار والشرفاء!!!

في هذه الضيعة الحاصبانية الممتلئة بالرجولة والأخلاق كان مولد الرفيق فضل الله لعائلةٍ كريمة، كما شقّ والده عباب البحار مهاجراً في خمسينيات القرن الماضي إلى البرازيل حيث كان له الرزق الحلال، فعاد ليرعى الأسرة الصغيرة، فأوفد وحيده أبو نديم إلى كلية مرجعيون الوطنية، أيام مؤسّسها المرحوم لبيب غلمية، صاحب اليد الطولى في تعميم النهضة العلمية في مرجعيون وحاصبيا. وهناك تيسّرت له سُبل الانتفاح على رفاقٍ وأصدقاء من كل لبنان، ومعظمهم من أبناء العسكريين الذين يخدمون في اللواء الأول في ثكنة مرجعيون. وما زالت أواصر الصداقة والعلاقة قائمة بين العديدين من هؤلاء الروّاد، خرّيجي الكلية في الستينيات، وكانوا وما زالوا على صدى المناسبات السعيدة يلتقون. فلهم مني أحرّ التعازي بالعزيز فضل الّله.

أمّا مع الحزب التقدّمي الإشتراكي، فكانت للرفيق فضل الله بصماتٌ صادقة واضحة وشجاعة، سأذكر بعضها: الأولى في شبعا حيث مارس التدريس، فكانت لقربها من شويّا، ومن عقله الضيعة الثانية، وبقي حتى الأيام الأخيرة على تواصلٍ مع العشرات من شبابها يشاركهم حلو الحياة ومرّها.

أمّا في حارة حريك، حيث اجتمعت له أسباب النضال في الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية مع القائد الطلّابي، الرفيق أنور الفطايري، الذي كان يكنّ له كل المودة، وكل الاحترام لأسبابٍ لا مجال لذكرها، وكان يبادله بعبارة: تستحق أكثر من المحبة يا فضل الّله ...
وهناك رسمَ سيرةً جديدةً في إطار العمل الوطني مع صديقَين عزيزَين هما المرحومان ميشال واكد، ومحمد الشوفي. وكان قد انتقل للعمل في الجمارك اللبنانية مراقِباً مساعداً.

وفي أواخر سنة 1976، وإيماناً منه بأهمية السلم الأهلي، عملَ جاهداً مع الرفيقَين فؤاد الخماسي، وسامي الصفدي، والصديق سامي عارف ابراهيم، على تجنيب كوكبا أي هزّةٍ، أو اهتزازٍ في ميزان علاقتها مع جوارها وكرامة كبارها. واستطاع أن ينجيها من ردّات الفعل المتطرفة والهوجاء في نهاية حرب السنتين، وكان ما عمله في حاصبيا بتوجيهٍ لنا من الشيخ الجليل، المرحوم جمال الدين شجاع، ومجموعة عقلاء، وحكماء، وأهل توحيدٍ وإيمان من حاصبيا.

وما إن أزفت حرب الجبل لفكّ الحصار المفروض على أهله، وما أصابهم من تنكيلٍ ومضايقات لتأكيد غلبةٍ لفريقٍ معتدٍ ضال على فريقٍ مسالم: فريقٌ لم يغادر قراه ولا مرابعَه، ولم يتوجّه لفتنة. يومها لم يؤخذ على المرحوم فضل الله أية إشارةَ تقصيرٍ في الحضور، والمواكبة، والمشاركة، والمساهمة في أعمال الدفاع عن العرض والأرض.

وكانت بلدته وأصدقاؤه، ورفاقه من شويّا، قدّموا الدم الغالي لحماية الكرامة الوطنية، والكرامة العربية؛ وكان لهم ستة شهداء قضوا في مواجهات الحرب الأهلية، وفي بطولات المقاومة الوطنية اللبنانية، إضافةً إلى العديد من الجرحى، وطليعةٍ قيادية لعبت دوراً بارزاً منذ 1976، وحتى معركة سوق الغرب في 13 آب 1989.

إلى الرفيق المناضل فضل اللّه في عالمه القديم كل الرحمة من الخالق جزاء كرَمٍ بذلتَه في ميادين النضال التقدّمي. وستبقى يا أبا نديم مثالاً للتضحية والعطاء. وثِق بأنّنا سنبقى أوفياء لمبادئك، وخياراتك، وستبقى المختارة قبلَتنا إلى يوم الدِّين، وسيبقى بيتك وأهلك موئل تقديرٍ واحترام من كل محبّيك وزوّارك في شويّا والغابون، وفي مضافاتك كنتَ تفتح قلبك ودارك للأحباء، وما أكثرهم...