Advertise here

لا أحد بريء!..

21 شباط 2020 16:27:00 - آخر تحديث: 21 شباط 2020 18:49:20

عام 2000 كان نقطة تحوّل. خيضت الانتخابات النيابية خلاله بعد تحرير جنوب لبنان على أساس انقسامٍ جديدٍ ظهر بين اللبنانيين على مزارع شبعا والتي اعتبرها حزب الله لبنانية، ويجب الإبقاء على السلاح لتحريرها، فيما اعتبر فريقٌ آخر أنه يجب توثيق لبنانيّتها في المحافل الدولية، ثم تحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية تحريرها. ترافق ذلك مع مصالحة الجبل التاريخية، وبدء المطالبة بضرورة استكمال تطبيق اتفاق الطائف، وانسحاب القوات السورية من لبنان بعد انتفاء مبرّر بقائها.

أدّى هذا الانقسام عام 2004، إلى خلافٍ كبير بشأن إصرار النظام السوري مع حلفائه، على التمديد لإميل لحود، ورفض فريقٍ آخر لهذا التمديد، ويمثّله رفيق الحريري ووليد جنبلاط، ومعظم القوى المسيحية، وعلى رأسها بكركي والبطريرك صفير.

وكان الفريق الأول مدعوماً من المحور السوري- الإيراني، والفريق الثاني من المجتمع الدولي والمجموعة العربية. وصل هذا الانقسام إلى حدّ البدء بمسلسل الاغتيال، والذي بلغ ذروته باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وقد أدّى ذلك إلى انتفاضةٍ وطنية عارمة مطالبة بانسحابٍ فوري للقوات السورية والتي حُمّلت قيادتها مسؤولية الاغتيال. قوبلت هذه الانتفاضة في 8 أذار 2005، بمظاهرةٍ كبيرة لحزب الله وحلفائه داعمةً لبقاء القوات السورية تحت شعار شكراً سوريا. وهذه المظاهرة استدعت مظاهرة مليونية مقابِلة في 14 آذار، تحت شعار إخراج جيش الوصاية، وتحقيق العدالة الدولية بقضية اغتيال الحريري.

خيضت انتخابات 2005، على وقع  خلافات واسعة بين التيار الوطني الحر، وباقي قوى 14 آذار التي قيّض لها أن تفوز بأكثرية تؤهّلها تشكيل الحكومة بمعزلٍ عن هذا التيار الذي صار يُحسب بعد تفاهمه مع حزب الله في خانة 8 آذار. وكان هذا التيار أول من أطلق النار على انتفاضة 14 آذار، وذلك من خلال تفاهم 6 شباط في كنيسة مار مخايل مع حزب الله، وتعهّده تغطية سلاحه، وتدخلاته، وتحالفاته الإقليمية، وأيضاً عبر رفضه إسقاط إميل لحود في الشارع.

كما تلقت 14 أذار ضربةً موجعة برفض البطريرك صفير إسقاط الرئيس المسيحي في الشارع...
وهذا ما مكّن الرئيس لحود، والقوى الداعمة له، من إعادة تجميع قوتهم، ما ساهم أيضاً في تصعيد حدّة المواجهة والانقسام بين الحكومة التي ترأسها الرئيس فؤاد السنيورة، والتي كانت قوى 14 آذار داعمةً لها، وبين 8 آذار مع التيار الحر.

استطاع حزب الله وحلفاؤه التقليديون والجدد أن يُرهبوا  الحكومة، وأن يفرضوا ما يشبه اتفاقاً غير معلن قضى بوجود هذه المعادلة: عدم التعرّض لسلاح حزب الله ومهامه الداخلية والخارجية، وكل ما يرتبط به، لا سيّما الممرات غير الشرعية، وتنقلات أفراده وعتاده، مقابل تجاهله موضوع فساد وسرقة أهل الحكم وأزلامهم. وبذلك حلّت منظومة قوى السلاح المتفاهمة مع قوى الفساد بدل منظومة الوصاية التي أدارت السلطة واستثمرتها أمنياً وسياسياً. 

وبعد أحداث أيار 2008، ومؤتمر الدوحة، انتُخب الرئيس ميشال سليمان الذي حاول من خلال جلسات الحوار أن يقيّد السلاح باستراتيجيةٍ دفاعية لعدم توريط لبنان بصراعات المحاور، فكان هناك موقفٌ عدائي تجاهه من قبل حزب الله وحلفائه. 

وعلى أثر أحداث أيار 2008، وخطر اندلاع فتنة طائفية بين الشيعة والدروز، وفي ظل تراجع دينامية قوى 14 آذار، وتنوّع أولويات أقطابها، أعلن جنبلاط تموضعه في الوسط.

أمام هذا المشهد المتراجع للقوى السيادية، ساد مفهوم القبول بستاتيكو تعايش سلطة الفساد والمحاصصة مع سلطة السلاح، وذلك بانتظار تغيّرات إقليمية ودولية كفيلةٍ بإيجاد حلٍ خارجي له، وهذا ما شكّل  سمة المرحلة التي حكمت سلوك أغلبية قوى 14 آذار. أما تيار إكس 14 آذار، الذي تمثّل بالتيار الحر، فقد قطع بتفاهمه مع حزب الله كل صلةٍ له مع تاريخه ما قبل 2005، وبدأ باستثمار شعاراته ومبادئه الاستقلالية والسيادية لمصالح محض سلطوية مرتبطة بتغطية كاملة لسلاح حزب الله. والفرق بينه وبين قوى 14 آذار الأخرى، هو أنه باع السيادة مقابل الهيمنة الحصرية على السلطة، في حين ارتضت قوى الـ 14 آذارية الأخرى التشارك معه ومع غيره في منظومة الفساد تحاشياً للصدام الداخلي، وبانتظار تغيّر الأحوال، وظهور إمكانية حلّ مشكلة السلاح خارج الدولة.

 بعد  انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان، تمّت مكافأة التيار الحر بتعطيل قوى السلاح لعملية إنجاز الاستحقاق الرئاسي حتى استوت الظروف المحلية والإقليمية والدولية لإيصال العماد ميشال عون. وفي هذه اللحظة جرى القضاء تماماً على ما تبقى من 14 آذار، وروحيّتها، ومبادئها، وانتظاراتها، من خلال المناورات والصفقات التي أحاطت بالاستحاق الرئاسي، وتُوّجت بصفقة سعد الحريري - باسيل من جهة، واتفاق معراب بين القوات والتيار الحر من جهة أخرى، واضطرار الاشتراكي للانضمام  إلى هذا المسار. 

  بنتيجة الاستحقاق الرئاسي الأخير، تكرّست هيمنة مشروع منظومة قوى السلاح، من خلال التيار العوني الذي  قايض مبادئ سيادة الدولة بتأمين عملية وصوله إلى رأس السلطة واستحواذه على مغانمها.

دفع تصاعُد وتيرة الجشع والاستحواذ على جنة الحكم من قِبَل التيار العوني، وتهميش تيار المستقبل، والقوات، وغيرهما في ظل انشغال قوى السلاح بـ "الهموم الإقليمية"، إلى انتفاضة الوجع الوطني في 17 ت1، وانهيار التفاهمات والصفقات الثنائية التي أوصلت عون إلى الرئاسة.

وتحت ضغط الشارع، واتّهام كل من شارك بالحكم على مدى العقود السابقة، بالفساد... نأت قوى 14 آذار بنفسها عن الحكم، لكن بشكلٍ غير منظّم ومنسّق، وهو ما أتاح لقوى السلاح، وربيبها التيار العوني، تشكيل حكومةٍ ظاهرها من الاختصاصيين، وفعلياً من ممثلين غير بعيدين عن المنظومة المتواجهة مع المجتمعَين العربي والدولي، وذلك في ظل أوضاعٍ اقتصادية ومالية كارثية تنذر بما لا تُحمد عقباه.

 اليوم، المشهد يتوزّع بين سلطةٍ موجّهة من قبل منظومة مرتبطة بمحورٍ إقليمي معادٍ لبلدانٍ عربية مؤثرة وداعمة تاريخياً للاقتصاد اللبناني، ولمجتمعٍ دولي يطالب السلطة بإصلاحات جذرية، وإيجاد حلٍ للسلاح المتسلّط والخارج عن سيطرة الدولة، وقوى معارِضة كانت مشارِكة بالسلطة وتحاول بخروجها منها وقف تدهور، وتآكل، رصيدها الشعبي المتحوّل يوماً بعد يوم باتجاه الحراك القائم في البلاد منذ حوالي أربعة أشهر.

 غير أنه، وللأسف، بعد هذه الفترة غير القليلة فإن الحراك الزاخر بإمكانيات واعدة داخل لبنان وخارجه، والنابض بالمشروعية والحق، لا يزال من دون أفق وقيادة ملهمة جامعة، وديناميةٍ تتعامل مع المستجدات والتطورات بفعالية وحكمة؛ هذا عدا بروز بعض المتسلقين النفعيين، والانتهازيين، والحاقدين على ظهر الحراك، وتفريغ أحقادهم وسمومهم باسمه.

نعم. باستثناء المنتفضين الذين دفعهم، عوَزهم، وجوعهم، ووجعهم، إلى الشارع، ومن هو فعلاً معهم قلباً، وإنْ لم يكن قالباً... لا أحد بريء من دم هذا الصدِّيق لبنان، وعذابات اللبنانيين المدفوعين على طريق الجلجلة بأيدي تجّار الهيكل الأوصياء، والحكّام المجرّدين من أدنى المشاعر الإنسانية والقيَم الأخلاقية.

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.