Advertise here

هذا ما تبقى من وطن

21 شباط 2020 08:33:13

ضجّت القاعة بالوافدين وبالأناشيد الثورية، وظهر الحماس على الوجوه العاقدة المتهيّبة، والمتأهبة المنتظِرة ذلك الذي سيعتلي منصة التاريخ خطيباً محاضراً يوقد نار العقول المظلمة، ويعيد الدفء للقلوب الباردة، ويحرّر الأجساد المكبّلة، فتنتفض الشعوب على حكّامها وأنظمتها، وتسقط العروش، وتتهاوى الحكومات، وتتشكّل الجيوش، وتتوزع المهمّات والنصر آتٍ لا محال.

وما هي إلّا لحظات حتى بدأ التصفيق، وتعالت الهتافات، فإذا بالمنتظَر يظهر ويبدأ الخطاب محلِّلاً متعمِقاً، مفصلاً للأحداث التي تدور حولنا إقليمياً ودولياً. وفي كل ما قاله عن سُبُل المواجهة والتصدي للعدو الصهيوني، وخلفه الشيطان الأكبر - وعن أطماعهما وعدوانهما على أمّتنا، وقضيّتنا، ووجودنا وحدودنا، وجغرافيتنا، وتاريخنا، وحاضرنا - لا خلاف عليه بين جميع المواطنين اللبنانين، وشعوب الأمة العربية والإسلامية جمعاء.

أما في الداخل اللبناني، فيا سماحة المنتظَر، المواطن مسلوبٌ حقّه في الحد الأدنى من العيش الكريم، وكاهله مثقلٌ بكل هموم الحياة من المسكن، إلى الطبابة، والتعليم، إلى العمل. أولاده قسماً منهم يتسكّع على أبواب السفارات، والآخر يعيش مقهوراً مذلولاً يعاني المرض، والعوز، والحرمان. والحاكم فاسدٌ وعهده ناقض، وحلمُ المواطن بسيط: دولة مدنية، ووطنٌ تسوده العدالة الاجتماعية، وأن يتمتع بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. هو يحلم أن يعيش إنسانيته كإنسانٍ يمارس حريّته في معتقده وأفكاره فعلاً وقولاً، دون خوف، والرعب من التوقيف، والاعتقال، والتخوين، والانتقام السياسي.

يا سماحة المنتظَر. لم يأتِ خطابك على ذكر همومنا وشجوننا، رغم أننا قبلنا الأقنعة مكان الوجوه، وسلّمنا بمفهوم المؤامرة، وقلنا لا ضير من إعطاء فرصة، لربما الأقنعة تنسى في لحظة ما الوجوه الحقيقية التي تختفي وراءها، فإذا بك تعيدنا إلى الدائرة الأولى عبر تحميلنا مسبقاً مواقف عدم التزامكم بحياد لبنان عن آتون الصراع الإقليمي والدولي المتأزم.

يا سماحة المنتظَر لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، كما لا يمكن ضبط الإدارة في ظل الفساد، ومن المستحيل أن تطلب الدعم من الذين خرجنا عن إجماعهم، وجاهرنا بعداوتهم، وشتمنا أولياء الأمور منهم، فأصبحنا معزولين عن الأشقاء والأصدقاء، فوقعنا بأسوأ ما تمنّاه عدوّنا لنا من انهيارٍ اقتصادي وتفككٍ على المستوى السياسي والسيادي، وضياع وخوفٍ من المستقبل الآتي.
فما هو الحل؟؟ العهد القوي، ورئيس الظل، وصفقات فساده، وأزلامه تفحّ رائحة النتن منها في جميع إدارات ومؤسّسات الدولة؟ أم سياسة المحاور، وتحويل البلد إلى مصرفٍ يسدّد فواتير الصراعات الإقليمية على حساب المواطن اللبناني؟ أم بيع المُلك العام إلى القرد والسمسار؟؟
ألا يكفي هذا البلد ما حلّ به من مآسٍ، وآخرها اللعب بالليرة اللبنانية، وقيمتها الشرائية في سوق القطع الممتد من بيروت إلى دمشق بقصد القضاء على ما تبقى من احتياط لبنان من العملة الأجنبية.

إن ما تبقى من هذا الوطن، جيلٌ من الشباب الواعي الذي قد يُحدث بعض التغيير، خصوصاً وأن المنابر، والخطابات والمحاضرات الرنانة لا تعنيه بالمطلق. ويبقى لهذا الشعب أن يحلم بوطن.

 

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.