Advertise here

كمال جنبلاط والنصرانية والإسلام

22 كانون الثاني 2019 16:40:00 - آخر تحديث: 23 كانون الثاني 2019 23:05:38

هل دخولنا الى كنيسة ومشاركتنا أبناءها مناسباتهم وتناولنا قربانهم أو صلاتنا فيها صلاة كاملة أو بقراءة الفاتحة الكريمة، خطيئة تستوجب طلب المغفرة من رجال الدين المسلمين والاعتذار من الله؟؟ أليست الكنيسة بيتاً من بيوت الله؟ ألم يقدم المسيحيون والمسلمون أبناءهم قرابين شهادة الحق والكرامة والعدالة على مذبح التاريخ وتحديداً قرابين شهادة كل ما عصف به من حروب طائفية تذابحوا فيها أحياناً؟؟

وهل دخولنا الى مسجد ومشاركتنا أبناءه مناسباتهم ولو صلّينا معهم على طريقتنا وقرأنا بهدوء شيئاً من الإنجيل المقدّس، خطيئة أيضاً تستوجب الاعتراف أمام كاهن الرعية والاعتذار وكأننا ارتكبنا ارتكاباً فاضحاً في ممارسة إيماننا بالله الواحد، والمسجد أيضاً هو بيت من بيوت الله؟

لا. لا هذه خطيئة ولا تلك إذا كنا مؤمنين حقيقيين بالله الواحد، والرسالات السماوية التي تلاقت حول التسامح والمحبة والانسان الشريك على الأرض. 

لا. هذه ليست خطيئة بل قد تكون ولو من باب المصادفة أو القيام بواجب، مناسبة للتكفير عن خطايا وللتأكيد أننا نحترم الانسان وقيمته وقيمه ونعيش في وطن استنثنائي إسمه لبنان، أساسه التنوّع، ويجب أن نبقى نتعلّم من التجــــارب المريرة التي مررنا بها، ونبحث عن أفضل السبل لنكرّس هذا التنوّع، والشراكة في حياتنا اليومية وتقدير قيمنا المشتركة. أما رأينا سيدات فاضلات يتناولن القربان في حاضرة الفاتيكان من يد الحبر الأعظم أو في كنائس أخرى. وكانت الصورة جميلة؟؟

إنطلاقاً من الإيمان بهذا الدين أو ذاك يجب أن نكون أقوياء. الإيمـــان يقوّي ولا يُضعف. الإيمان يعزّز الثقة بالنفس ولا يضعفها . الإيمان يدفع بنا الى مزيد من المبادرات ومدّ اليد للآخر والبحث عن المشترك معه، واللقاء به. هذا في الأساس فكيف إذا كنا في زمن نواجه فيه التكفير باسم الله، ونرى ممارسة الإرهاب باسم الله، ونسقط الأحكام على بعضنا هنا وهناك باسم الله، وباسم الدين، وباسم الرسالات السماوية وهي أحكام لا تردّ بل يجب أن يرضخ لها المستهدف وإلاّ ؟؟

ليس هذا هو الإسلام ، وليست هذه هي المسيحية. وليس هذا هو الدين في جوهره ورسالاته. هؤلاء هم الرجال الذين يأخذون الأمر في هذا الاتجاه أو ذاك . 

وإذا كان العالم يعيش حالاً من الفوضى ، وغياب الكبار والأفكار ونرى عودة الى ظهور وتنامي حالات "النازية" "والفاشية" "والعنصرية" "والتطرف" "والحقد والكراهية" استناداً الى اللون أو العرق، فهذا خطر كبير يهدّد البشرية كلها، ويهدّدنا أكثر في لبنان فنخسر نعمة التنوّع فيه إذا لم ندرك كيف نحصّن أنفسنا ونتعامل مع ما يجري. مسؤوليتنا اليوم أكبر، ولو غاب كبار . ولو لم يكن ثمة أفكار. لكن مرّ في البلاد رجال كبار، وقامات ومقامات أعطت الفكر والعلم والدين والإيمان الرسالات والميثاق والتنوّع قيمتها وزرعوا فينا أجمل الصور وأغنى القناعات وأغلى الأمانات. 

أقف دائماً أمام المعلم الشهيد كمال جنبلاط . وهو الحاضر فينا في كل ما كتب وقال ومارس وهو المؤمن المتعمّق في الفلسفة والدين والعلم والباحث الدائم عن الحقيقة والمتفاعل مع كل حضارات وثقافات الإنسانية. كمال جنبلاط وفي حفل تأبين البابا بيوس الثاني عشر في بيروت قال: "أدرك البابا بيوس الثاني عشر في بصيرته الناضجة المتطلعة الى المستقبل القريب والبعيد عن مشاكل القومية والدين ، وخاصة في العالم العربي، وأن زمن التناحر الطائفي قد انقضى، وأن للنصرانية دوراً عظيماً يجب أن نلعبه في الشرق، وأنها من هذا الباب وديعة الإسلام كما أن الإسلام في هذا المعنى الرفيع وديعة النصرانية. وتنبّه بيوس الثاني عشر الى خطر التعصّب الطائفي والأخذ بالنظريات القومية الطائفية إسلامي انت أم مسيحي فكان موقفه من الحركات العربية الوطنية موقف المتفهّم الذي شهدناه . 

وأفضل مثال على الروح السامية التي شاء أن تتجسّد فيها الوطنية في لبنان ، هو ذلك المشهد الرائع الذي لا يمحى في ذاكرة التاريخ . مشايخ من الدين الحنفي الإسلامي يركعون ويصلّون في صرح بكركي أمام صورة الحبر الأعظم للنصرانية بينما كانت الشمس تغيب في مهمه الأفق البعيد ، وأجراس الكنائس في مرتفعات أغوار كسروان تقرع ثلاثاً داعية سكانه المسيحيين الى صلاة التبشير"!!

هل ثمة كلام أرقى وأجمل وأكثر تعبيراً وتبشيراً من كلام المعلم المبشّر كمال جنبلاط، تعليقاً على صورة في قلب الكنيسة يجب أن تعمّمم على كل المسيحيين والمسلمين؟؟

هل ثمة مشهد أروع من ذلك المشهد الذي استوقف الرجل الكبير فسجّله في التاريخ ويجب إلاّ يمحى منه، بل أن يبنى عليه؟؟

هل ارتكب المشايخ المصلّون الصائمون خطيئة أمام صورة الحبر الأعظم؟؟ لا. الكنيسة كانت رحبة. كريمة وهم بصلاتهم في رحابها زادوها غنى . 

هذا هو لبنان  هكذا يجب أن نكون نحن مهما اختلفنا في السياسة. هذا اللبنان يجب أن يبقى. يتطور. يكبر بمثل هذا الإيمان وهذه القناعات والممارسات في ظل ما يشهده العالم اليوم من مخاطر تطلّ علينا مجدداً كما كانت أيام البابا بيوس الثاني عشر. والبابا فرنسيس لا يقصّر اليوم في مواجهتها. 

فما أحوجنا في لبنان الى كمال جنبلاط، والإمام الصدر، وعبدالله العلايلي، والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم وغيرهم من الذين آمنوا أن الأقوياء في نفوسهم هم المنتصرون، فما خافوا رأياً أو حواراً أو آخر، أخذوا من الدين والعلم والمعرفة والقوة والثقة بالنفس وجسّدوا كل ذلك في ممارستهم .