Advertise here

لعنة الثقة

14 شباط 2020 12:49:11

منذ نزل اللبنانيون إلى الشارع بسبب القرار بزيادة الرسم على "الواتساب" في 17 تشرين الأول، لم يفهم الحاكم أن الناس أصبحوا في وادٍ وهو في وادٍ آخر.

لم تنفع العودة عن القرار. ولم تنفع عروض رئيس الحكومة يومها سعد الحريري. ولم تنفع الوساطات مع الناشطين في الحراك الاستقلالي التشريني الجديد. ولم تنفع أيضاً الاتهامات بالعمالة للخارج، ولا الإغارات الليلية، ولا حرق الخيم.

 لم تنفع قرابين الشهداء، ولا إضرام النار في الأثواب، ولا نزول المتظاهرين والمتظاهرات، ولا إغلاق المدارس والجامعات.

كانت الرعونة أعظم من الحماقات. وكانت الحماقات أعظم من المواجهات: شارعاً بشارع، وطائفة بطائفة، وحزباً بحزب، وزعيماً بزعيم. حتى أن الحاكم لم يتورّع عن تجنيد المرتزقة والبلطجية، للإغارة على النساء والطلاب والأطفال.

ولم يتورّع عن استدعاء القيادات المحيطة به، لتأنيبها في التقصير. فكان يعقد لهم دواوين التأديب، ومجالس التأديب، واجتماعات التأديب، ليمعنوا في الضرب بيد من حديد. ويوجّه لهم أقسى تهديد، فوجّهوا الخراطيم والمدافع المائية، حتى على وجوه الأطفال. ويرموا القنابل الدخانية على النساء قبل الرجال، ويصوّبوا بنادقهم ليفقأوا العيون التي تحرس لبنان.

استهتر الحاكم بكرامة الشعب، فنزل الشعب كله إلى الحاكم فتراجع الحاكم إلى شعابه. تلطّى هناك وراء الأسوار، ووراء الأسلاك، ووراء الأسيجة المكهربة، ووراء الفِرق المدربة.

نزل الشعب كله، إلى الحاكم كله: بأسلحته، وبسلطته، وبسلاطته، وبسلطانه. ببطانته، ورطانته، واعوجاج لسانه، وانحدار خلقه، ودسائسه، ودهمائه.

ولم يرهب الشعب. ظلّ الشعب يهتف، لا. ظلّ الشعب يرقص في الساحات، وفي الشوارع الأيام، والأسابيع، والأشهر، وربما يمرّ الحول بعد الحول، إذا ما أحس بهذا الهول.

 شعبٌ يريد خبزاً وحرية. شعبٌ لا تثنيه المعسكرات، ولا التحالفات، ولا الأجهزة، ولا الأكمات. ولا تنفع معه الرشاوى ولا الكمامات.

 شعبٌ سئمَ من حاكمه أحكام الإعدام، وأحكام التجويع، والإفقار وسياسات التخاذل والارتهان. 

 شعبٌ توحّد في الساحات، بلا أعلام غير علم لبنان. وبلا إعلام لغير حدود لبنان. وبلا تفريق بين ابن ست، وابن جارية.

 شعبٌ صمّم أن يقاوم عدوّه على الحدود. وأن يقاوم أيضاً عدوّه في الداخل، في الدفاتر، والقيود، والبنود.

 وربما اتّجه الحاكم لإخلاء العاصمة الإدارية كلها. لا وسطها، ولا الشوارع المحيطة به، ربما حجرَ على سكان الضواحي كلّها، وعلى سكان الأقضية كلّها، وعلى سكان المحافظات كلها، وعلى الشعب اللبناني كله.

 وربما عيّن عليه وصياً صغيراً. ربما فعل ذلك وأكثر. وربما يفعل ذلك وأكثر. 

ولكن الشعب سوف يبقى له بالمرصاد. يطالب بماله، وبحريّته وبسلطته، ولا يهن، ولا تخور له عزيمة. وسيظل يردّد في وجهه: كفى، كفى. بلغ السيل الزبى.

 وإذا ما "سِيقَت" المجهولة إلى المجهول، واختُطفت إلى ما وراء أكمة القليعات لاغتصابها عنوةً عن أهلها، أو أكمة الرياق، أو أي  أكمةٍ في الجمهور، أو الفياضية، أو في بعبدا، أو في بعبدات، على جاري العادات، فلسوف يتابعها الشعب، ويعيدها من حيث أتت، ويرفض السياسات المستحدثة له في المكبات.

 فبعد لعنة الحكومة، سوف يظلّ الشعب على صموده، بعد أن تعلّم من تجاربه مع الحاكم الصوري، والوصي الخفي، يرفض بالمماثل لعنة الثقة بها، مهما صال العهد. ومهما طال، وطال العهد.


(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

 

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه