الناظر إلى الوضع في لبنان نظرةً ثاقبة، يرى أن هنالك تعقيدات جمَّة على كل الأصعدة والمستويات، لا سيّما لجهة الوضع السياسي القائم. فمنذ سبعين سنة ونيِّف ولبنان يعاني من أزماتٍ سياسية حادة كادت أن تضربه في العمق بكل مكوّناته ومقوماته، بما يعني أن الأزمة قاربت أن تكون أزمة نظام.
فجلّ رؤساء الجمهوريات، الذين تعاقبوا على الحكم، كان همّهم الأول والأخير الاستئثار بالسلطة، والحفاظ على مصالحهم الشخصية، لا على مصلحة الوطن والمواطن، مانِّين على بطانتهم وحاشيتهم ببعض فتات العيش، تاركين الشعب يئنُّ ويرزح تحت وطأة لقمة العيش الكريمة، غير عابئين بما هو قادم، وبما هو آت. وهكذا دواليك إلى أن تراكمت الأزمات بشكل متسارع، وفي مقدمها الأزمة السياسية، والمتمثلة تاريخياً بعدم استيلاد قانون انتخابي عصري يحقق التمثيل الصحيح، بعيداً عن كل القوانين التي تعاقبت على لبنان، والتي كِدْنا من خلالها أن نفقد قيمتين: الهوية والحرية. والعجيب بعد كل هذا المخاض السياسي العسير أن هناك من راح يتنادى إلى تبنّي قانون أشبه بقوانين عصور الظلام، قانونٍ لا يليق بمطلع هذا القرن، ولا يستجيب لرغبات الشعب. إنه القانون "الأرثوذكسي".
والأغرب أن الذين يدّعون أبوته يعتبرونه إنجازاً في حال أصبح في متناول اليد، سيّما وأن فيه من العصرنة ما يساوي، وما يرتقي إلى مصاف الديمقراطيات الغربية، حسب زعمهم، علماً أنه مخالف للدستور، ولوثيقة الوفاق الوطني "الطائف" شكلاً ومضموناً، ولكل ما يمت بصلة للعيش المشترك، وبالأخص لجهة شرعة حقوق الانسان، ناهيك عن إلغاء وذوبان شريحة كبرى ضمن الطائفة نفسها.
والأخطر من ذلك هو هذا الطلاق الذي كان سيحصل بين الطوائف بما ينافي الشراكة، والتنوّع، وصوغ عقد اجتماعيٍ جديد. فهل يُعقل أن تنتخب كل طائفةٍ نوابها وحيدةً منفردة؟ وهل هذا يعطي الجميع ما يُغني ويكفي من أمان، واطمئنان، وحماية؟
إن السير بهذا الطرح لا يقبله عقل ولا منطق، باعتبار أنه سيكون له عواقب وخيمة، ومفاعيل خطيرة، قد تعود بنا إلى ما يشبه سنوات الحرب العجاف، والتي كادت أن تُخرج اللبنانيين من لبنانيّتهم وعروبتهم!
وعليه، نعود فنذكّر كم كلّفت القوانين الانتخابية المتعاقبة من التجافي والتباعد بين أبناء الشعب الواحد، بسبب ما وهبت من امتيازات لفئةٍ دون أخرى، وكم جرّت من أزمات ما زلنا نعاني من آثارها حتى اللحظة.
فكيف بنا إذا ما جاءنا قانون يؤسّس لشرارة حروب ذقنا مرّها طوال خمسة عشر عاماً، وكادت أن تدمّر لبنان برمّته؟ إنه لمن المستحيلات العجاف أن يحمي هذا النمط من القوانين أحداً، لا سيّما منهم الذين يدّعون أبوّته، خاصةً وأن دستور ما قبل الطائف لم يحمِهِم، يوم تداخلت عوامل كثيرة من الغرق في سلسلةٍ من الأحداث...
هكذا نوعٌ من أنواع القوانين يسبب ضياع الوطن، وإلباسه لبوساً غير لبوسه.
ما هو مقبول حالياً، هو قانون انتخابات على أساس المحافظة، كما أكدّ على ذلك اتفاق الطائف، ريثما نصل إلى إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي.
وإلّا فلا قانونٌ انتخابيٌ حديث في المدى المنظور!!