Advertise here

الأنا اللبنانيّة في ظلّ الأزمات

31 كانون الثاني 2020 18:00:31

إنّ الوضع المُتأزّم، الذي يمرّ به لبنان في الوقت الراهن، قد انعكس سلباً على الحالة النفسية للشعب اللبناني بشكل عام، حيث يعاني اللبنانيون اليوم من الإحباط، والقلق، ومشاعر الغضب والعدوانية. وبعضهم قد يقع فريسة الاكتئاب. ولكن هذه الحالة هي مرحليّة مرتبطة بالواقع. فالشعب اللبناني اكتسب سِماتاً نفسية مُتميّزة عبر تاريخه المليء الأزمات، وبحيث باتت مشاعر التناقض، والصراع الفكري والنفسي من العناصر المُلازمة للتركيبة النفسية للّبنانيين. وهذه الحالة، رغم كونها سلبية من المنطلق المنطقي، إلّا أنّ نتائجها كانت إيجابية، فقد مكّنت هذه الحالة الصراعية من تحفيز العديد من الأواليات الدفاعية لدى "الأنا" اللبنانية.

أولى تلك الأواليات هي "التسامي": وتتجلى هذه الأوالية بالانخراط والبحث عن النشاطات الفكرية والإبداعية والفنّية لإعلاء الذات، وتعويض الثغرات.

تظهر أيضاُ أوالية "العقلنة" من خلال الميل إلى الدخول بأحاديث تحليلية سياسية وتاريخية في أغلب الأوقات، وهي ظاهرة تميّز الأحاديث بين اللبنانيين.

نلاحظ كذلك أوالية "الإنكار" وهي تتجلّي عبر التمسّك بوضعيّة عدم الاكتراث والانعزال، وقلّة الاهتمام بكل ما يجري في المحيط ، كما لو أن الفرد خلقَ لنفسه عالماً خاصاً منفصلاً عن الواقع.

كما يُمكن رؤية أوالية "التفريغ"، فالمشاعر العدوانية الكامنة في الذات اللبنانية عبر التاريخ لا بدّ لها من متنفّس، ولذا تبلورت ظاهرة السخرية والتهكّم، وهي ظاهرة لا تتجلّى فقط في الفنون والبرامج التلفزيونية والمسرحيات، وإنما تظهر في الأحاديث بين الناس، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نرى بوضوح وبكثرة الأسلوب النقدي الساخر غير البنّاء، والتهكّمي الضاحك، من خلال النِكات الساخرة.

وانطلاقاً من هذا العرض التحليلي البسيط يمكن القول أنّ الشعب اللبناني، وبالرغم من مظاهر الاضطراب والصراع، وكافة أشكال المشاعر التأزميّة، إلّا أنّ النسيج النفسي اللبناني يتمتع بصلابة غير مسبوقة، وقدرة مُلفتة على التكيّف والتأقلم مع كافة الأوضاع والظروف الصعبة، لا وبل استثمارها بطرق إيجابية وتعويضيّة. ومن هنا فإنّ كل مرحلة مأزمية يمرّ بها لبنان يمكن رؤيتها على أنها خبرات تعلّمية لا بدّ وأن ينتج عنها ثماراً إيجابية في وقت لاحق من خلال التعويضات والتساميات النفسية والفكرية والإبداعية.

ومن خلال المنطلق التحليلي يظهر لدينا مؤشرات أن كل أزمة تساهم في بلورة الإمكانات النفسية والذهنية للذات اللبنانية. وهذه الأزمة الحالية أرست بعض العناصر التي كانت مفقودة في التركيبة الذهنية اللبنانية، وهي العناصر المُتناسبة مع روح المواطنيّة والقدرة على تقبّل الآخر، مهما كانت الاختلافات. وهذه العناصر سوف تكون عوامل مُساهمة في الارتقاء الذهني بالوعي الجمعي اللبناني على المدى الطويل، أي بعد المرور بسنوات المراهقة النفسية بكافة مآزمها الانفعالية والفكرية والسلوكية.

(*) أخصائية نفسية

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.