Advertise here

اجتياح أميركي جديد للمنطقة... فما بعد "صفقة القرن"؟

31 كانون الثاني 2020 13:03:28

أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مشروع السلام الأميركي، المسمّى، والمتعارف عليه باسم "صفقة القرن"، بعد سنوات من التأجيل، وبعد عدة خطوات تمهيدية لا تقل خطراً عن "الصفقة" من إعلان القدس عاصمة موحّدة لدولة إسرائيل اليهودية، إلى نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، إلى الموافقة على ضم الجولان السوري المحتل إلى الكيان الإسرائيلي، إلى اعتبار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وداخل خط 67، جزءاً من دولة إسرائيل، مقتنصاً الوقت المناسب، ومستبقاً إعلان حملته الانتخابية الجديدة لولايةٍ ثانية. وجاء ذلك في خضم المواجهة السياسية - القضائية بين الجمهوريين والديمقراطيين حول قرار عزله، والمعروفة نتائجها في مجلس الشيوخ، ووسط حضورٍ خجول لبعض السفراء العرب، وحضورٍ لافتٍ للمتنافسَين في الانتخابات الإسرائيلية على منصب رئاسة الوزراء، الجنرال بيني غانتس، ورئيس حكومة تصريف الأعمال بنيامين نتنياهو الذي يخوض الانتخابات للمرة الثالثة خلال عام واحد، وذلك في سابقةٍ لم تشهدها إسرائيل من قبل.

وبعد النظرة الأولى لمشروع السلام الأميركي، يمكن القول فيه إنه أول اجتياحٍ سياسي أميركي لحقوق الشعب الفلسطيني المنصوص عنها في القرارات الدولية، وهذا الاجتياح السياسي لا يقل أثراً عن الاجتياح الإسرائيلي العسكري على لبنان عام 1982، والذي حاول اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية، وإنهاء الحركة الوطنية الفلسطينية ومطالبتها "بحق تقرير المصير"، المنصوص عنه في ميثاق الأمم المتحدة، وتعترف به دول العالم.

"صفقة القرن" هي محاولة أميركية لإنهاء الحالة الفلسطينية بما هي حالة سياسية، ومعالجتها على أنها مسألة اقتصادية، إنسانية، وما فشل فيه الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 في إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني. وتحاول الإدارة الأميركية اليوم، بمشروعها السياسي هذا، إنجاز الفشل الذي لم تستطع إسرائيل تحقيقه بالقوة قبل 38 عاماً.

يقال في الإدارة الأميركية إن هذه الخطة استغرقت 16 شهر لإنجازها وصياغتها، وهي تضم ما يقارب 190 صفحة، وتعالج الجانب الاقتصادي في الدرجة الأولى. أما المنطق الطبيعي للحل فيخلص إلى أن خطة انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أراضي 1967 الفلسطينية، لا تحتاج إلى هذا الوقت من الدراسة، ولا إلى خطة اقتصادية. فإنهاء الاحتلال هو شرط أساسي لقيام الدولة الفلسطينية. لكن خطة ترامب، وجهد معاونيه في الخطة، انصبّ على كيفية الالتفاف على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وكيفية إنهاء الصمود الفلسطيني الممتد منذ عام 2005 وحتى اليوم، والذي واجه التصلب الإسرائيلي والموقف الأميركي المؤيّد كلياً لإسرائيل. وما تتضمنه "صفقة القرن" هو هذا المشروع الإسرائيلي القائم على إسقاط مشروع السلام الفلسطيني، وإنهاء مشروع السلام العربي، الذي أقرته قمة بيروت عام 2000.

تاريخ النضال الفلسطيني، بأحزانه المتراكمة، يختزن في إصراره على البقاء والمواجهة الكثير من المفاجآت؛ وعليه يجب التنبّه إلى أن الفلسطيني الذي خرج من لبنان في حزيران 1982، بعد هزيمة عسكرية قاسية أصابت مشروعه الوطني التحرري، لم يخسر مشروعه السياسي. فالفترة التي فصلت بين خروجه من بيروت وبين لحظة انفجار الغضب الداخلي في انتفاضة الحجارة عام 1987، كانت مساحة مجهولة، وغير معلومة في مآلاتها. لكنها كانت مساحة جديدة حافلةً بالترددات والصراعات الداخلية والخارجية والإقليمية الكبيرة. إلّا أن الحالة الفلسطينية فرضت اتجاهاً جديداً للبرنامج الوطني الفلسطيني، والذي وصل إلى ذروة نضجه بإطلاقه "مشروع السلام" عام 1988، وحدّد ملامح رئيسة لكيفية تحصيل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وعلى أساس هذا البرنامج، كان مؤتمر مدريد، وكانت اتفاقية إقرار المبادئ في أوسلو، والتي انتجت السلطة الوطنية الحالية.

الآن نحن أمام قضية مختلفة اختلافاً كاملاَ، وما يجري يدعو للمواجهة بأسلوب جديد. فالتطابق السياسي الأميركي – الإسرائيلي ينهي إمكانية البحث في أي مشروع سلام في المنطقة، سواءً العربي أو الفلسطيني، أو أي مفاوضات من شأنها أن تخفض من مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وتضعه على سكة التطور، سيّما وأن ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل لا يسمح بإنتاج اتفاق سياسي متوازن بين الطرفين. وذلك ينذر بخطرٍ شديد على الحالة الفلسطينية، كونها حالة منقسمة وتصيبها درجة عالية من الاهتراء والإجهاد السياسي والمعنوي والمادي. وهي في حالةٍ من الأسر ضمن إطار غزة بفعل الحصار الإسرائيلي عليها، وما يفرضه هذا الحصار من تداعيات. وهي أيضاً في حالة أسرٍ في الضفة الغربية التي تشهد استمرار الحضور العسكري الإسرائيلي داخلها، وعلى تخوم مدنها، فضلاً عن المشروع الاستيطاني، ومصادرة الأراضي.

مصادر دبلوماسية فلسطينية مطّلعة فضلت عدم ذكر اسمها، رأت في حديثٍ مع "الأنباء" أنه، "بعد إعلان الرئيس الأميركي لخطة "صفقة القرن"، وأمام ما نحن عليه من حالة عربية متراجعة، وغير قادرة على قول كلمة واضحة وصريحة وقوية، فقد بتنا في مساحة زمنية جديدة، وستكون الأمور مطروحةً أمام حركة صراع من طراز جديد"، أضافت المصادر قائلة، "ربما تستطيع بعض القوى الفلسطينية أن تتريّث قليلاً في رفضها المشروع طالما أنه معدٌ منذ العام 2017، وكان من المفترض إطلاقه في العام 2018، وتم تأجيله حتى الآن". وأشارت المصادر إلى أنه، "ليس من العدل، ومن غير الإنصاف، القول بأن الفلسطينيين لم يكن لديهم الوقت لوضع استراتيجية وطنية كاملة، فلسطينية وعربية ودولية"، متسائلةً، "ماذا فعلت القوى الفلسطينية في السنوات الثلاث الماضية من أجل إنتاج خطة وطنية شاملة، واستراتيجية، وأمنية. ولماذا لم تنكب على إعداد ورقة أفكار لمثل تلك الخطة لتقول ماذا نريد في ضوء "صفقة القرن؟".

وقبل أن تخلص المصادر إلى استنتاجات مستقبلية، استذكرت بعض المحطات الأساسية لتشير إلى دينامية الحركة الفلسطينية الولّادة للمتغيرات، لا سيّما منذ الاجتياح الإسرائيلي العسكري عام 1982، والذي أنهى مرحلةً بدأت مع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، واعتمدت بشكلٍ رئيس على الكفاح المسلح، لتأتي بعدها حقبة النضج السياسي الفلسطيني، والتي انطلقت من عام 1987 إلى عام 2000، حيث انهارت آخر مفاوضات جدّية فلسطينية - إسرائيلية في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء إيهود باراك في "كامب دايفيد"، وأفشلت معها العملية السياسية التي حملت عنوان "اتفاق أوسلو". لكن في العام 2003، وعلى وقع الانتفاضة المسلحة (انتفاضة الاستقلال)، وعلى الرغم من احتدام الصدام مع الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن، استطاعت الحالة الفلسطينية فرض إنشاء اللجنة الرباعية التي شاركت فيها روسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة مع الإدارة الأميركية، ونجحت في وضع خارطة طريق (2003 – 2005)، والتي كان من المقرر أن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية. لكن أرييل شارون رفض، وعطّل، المسعى الأممي. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى 15 سنة، رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تقديم أي خطوة، لا بل بدأت العد العكسي لانتزاع المكاسب التي حقّقها الفلسطينيون في السلطة الوطنية، إلى أن جاءت "صفقة القرن" لتنهي هذه المرحلة، وتعلن بدء مرحلة جديدة.

إنها مرحلة تحمل في طياتها المجهول لسنوات قادمة. وهذا المجهول ينطوي على احتمالاتٍ إيجابية كما ينطوي على احتمالاتٍ سلبية. لكن الأساس في هذا الموضوع هو الحالة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني المستمر في الصراع، والمستمر في الحياة على أرضه. فالفلسطيني هو الرقم الأساس في أي معادلةٍ جديدة قبل الأرض والحجارة من حيث الأولوية، وإذا كانت هناك من فرصةٍ جديدة يعوّل عليها فسوف تكون رهن المستقبل، وهي  فرصة قد تخترق غزة، والضفة الغربية، ومناطق 48، ويكون أساسها الصوت الفلسطيني على كامل الأراضي الفلسطينية، ويطرح على نفسه سؤال، ماذا نريد في هذا الوطن؟ وكيف نصل إلى أوضاعٍ أفضل؟ هذا الصوت وهذه الفرصة هما برسم قوى جديدة لا أعتقد أن القوى الحالية قادرة على الاستجابة معها، وطالما أنه انقضت ثلاث سنوات دون أن تنتج هذه القوى، أي ورقة حقيقية تقول ماذا نريد؟ وكيف نتصدى لصفقة القرن؟