Advertise here

وجهة نظر: فوق الطاولة ليس كما تحتها

22 كانون الثاني 2020 19:05:00 - آخر تحديث: 27 كانون الثاني 2020 20:43:44

استعرت المشاحنات، والعراضات المسرحية، بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في أعقاب اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. إذ حفلت حلبة المبارزة بصولاتٍ وجولات تمثلّت بإطلاق تهديداتٍ كلامية بكافة أنواع الأسلحة الصوتية والتي ألقت بحممها على جانبَي الجبهة. وعلت التصريحات التصعيدية مدويةً في سماء المنطقة، وبُحّت الحناجر الصادحة، وارتفعت السبابات المتوعدة، لإضفاء القدر والقيمة اللازمة على لغة التهديد والوعيد.

اتُّخذت لدى الطرفين الكثير من التدابير الاحترازية. إنما واكبت كل هذه العملية مساعٍ فولكلورية تدعو لخفض التوتر وضبط النفس، وذلك لحفظ ماء وجه الذين ينبرون في كل مناسبة لإطلاق كل ما يختزنون من قدراتٍ خطابية، وارتجالِ مواقف متسرعة، للرد على فعلٍ يلزمه التعقل والروية.

كانت انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 قد شكّلت انعطافةً أساسية في مسيرة إيران وموقعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط، وفي العالم الإسلامي. فمنذ ذلك الحين خطّت لنفسها مساراً متنامياً وتصاعدياً باتجاه مكانتها الحالية، حيث وصلت إلى وجهتها مظفرة وآمنة، وأصبحت ذات تأثيرٍ فاعل في المنطقة الممتدة من الشواطئ الشرقية للمتوسط إلى الخليج العربي. كل ذلك ليس بغفلة، بل تحت أنظار وصمت دول العالم الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. فلقد تمّ طيلة مدة هذا المسار الاكتفاء بإطلاق وتبادل المواقف الكلامية والخطابية المتعددة (الموت لأميركا... الشيطان الأكبر... محور الشر... منبع الإرهاب...)، مع اختلاف بسيط في منسوب النبرة.

وتبيّن للمتابعين لمجمل هذه التطورات عدم غياب أميركا عن مواكبة هذه الاندفاعة الإيرانية بل تقديم، بشكلٍ أو بآخر، قوة دفعٍ خفية لها، وتهيئة بعض الظروف لإيصالها إلى هدفها. لكن بوجود هاجسٍ رئيسي يقلقها، وهو الملف النووي والصاروخي الإيراني، والذي لا يزال عرضةً للتجاذب والتقييد بغية تحويله إلى برنامجٍ نووي لأغراض سلمية بحتة.
     
 إنطلاقاً من هذا المشهد، تشكّل الموقف الأميركي حيال إيران. ففسح لها المجال عمداً، خارج الموضوع النووي، للتطور والنمو خاصةً على الصعيدين العسكري والجيو- سياسي، إلى أن تمّ تمكينها اليوم من الحصول على حصةٍ وازنة، عبر وكلائها، في إدارة الملف اليمني والعراقي والسوري واللبناني.

وفي عرض مبسطٍ ومختصر يُنظر إليه من زاوية واحدة، ودون عناء الغوص في فلسفة التحليل وخفايا التفصيل، يُلاحظ عدم وجود حيثيات جوهرية فوق الطاولة للخلاف خارج دائرة هاجس الملف النووي والصاروخي، وحيث تبيّن أن المطلوب، أميركياً وإسرائيلياً، هو وضع ضوابط ملزمة لأداء إيران في المنطقة، وجذبها لتسوية وضع ملفها النووي والصاروخي.

 أما بالمقابل، فالمشهد تحت الطاولة يختلف. إذ يستمر إطلاق يد إيران في الهيمنة والتوسّع، ودعم مشروعها المذهبي الإقليمي العتيد، لهدفين رئيسيين:

 1- تسعيرٌ، واستحضارٌ دائم للتباين السنّي - الشيعي التاريخي في العالم الإسلامي لاستنزافه وإضعافه وشرذمته، والحد من تأثيرات نموّه وتوسّعه الديموغرافي على الصعيد العالمي.

 2- تقوية وتشجيع القدرات الإيرانية، على أنواعها، خارج الموضوع النووي والتأثير على إسرائيل، لتبقى عامل تهديدٍ دائم ومباشر لدول الخليج، التي تضطر بدورها إلى استمرار توسّل مساعدة الدول الغربية، واستضافة المصالح الأميركية في ربوعها. كما تضطر لجعل نفسها زبوناً دائماً ونهماً لشراء السلاح، ومصدر إنعاش الشركات، ومصانع الأسلحة. ومن ناحية ثانية تكريس تربّع هذه الدول على ضفاف منابع النفط لتسهيل عملية الاستئثار بها، ووضع اليد عليها، وجني خيراتها.
     
في كل ما ورد أعلاه، لا ينفصل الموقف الإسرائيلي عن زميله [مثيله] الأميركي، إنما يختلف التفصيل بين بواطن الأمور وظواهرها.

أخيراً، ربما سيلتبس الأمر على هذه الطاولة المسكينة الحائرة، في قدرتها على التمييز بين الصديق والخصم، اللذين يختلفان شكلاً فوقها، ويتشابهان مضموناً تحتها، وحيث المكان يمتلئ بظلمة الكواليس، ووحشة الدهاليز والغرف المقفلة، التي لا تنفذ إليها وسائل الإعلام، بل نور الوعي في سعي الجادّين لاكتشاف الحقيقة.

(*) عميد متقاعد