Advertise here

عن امتهان حالة الإنكار... و"نظام التفاهة"

09 كانون الثاني 2020 05:15:00 - آخر تحديث: 09 كانون الثاني 2020 11:42:29

يكاد كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو، "نظام التفاهة" يكون كتاب الألفية الحالية. يتحدث الكتاب عن تراجع قيمة السياسة في هذا الزمن، لصالح طفرة طفيليات تدّعي الممارسة السياسية لكنها لا تقوم على غير التفاهة والخواء. وهو نموذج يتعمم في كل أصقاع العالم. وفي جوهر الكتاب يتحدث الكاتب عن أن السياسي التافه يحتاج إلى سياسي تافه آخر ليتمكنا من الإستمرار وتحقيق ما يريدانه. ربما هذه المعادلة الجوهرية هي التي تدفع البعض في لبنان إلى اعتبار نفسه في المصاف الآحادي، فينزّه ذاته عن الآخرين، ويعتبر أنه صاحب الحق والإصلاح، بينما الآخرون من الفاسدين.

هذا بحدّ عينه هو نموذج التفاهة، ولأن التافه لا يجد من يواسيه في تفاهته ويستكمل معه ثنائيته، يتلذذ في وحدته، عائماً على ترّهات لم تعد تنطلي على أي من الناس، فيدّعي أنه الواحد والمصلح والقديس والمخلص.

وهنا تكمن أزمة السياسة فهي من أزمة هؤلاء السياسيين. ومشكلة الشعوب تكون دائماً مع رجال سياسة يعيشون حالة انفصام عن الواقع، فيبدون هم في وادٍ والناس في واد آخر. 

وفيما تتثبّت علاقة علم السياسة بكل العلوم، حيث هو لا ينفصل عن علوم التاريخ، الإقتصاد، الإجتماع، الفلسفة، فإنه حديثاً تم إدخال علمين أساسيين ليكونا من المكونات الأساسية لعلم السياسة. فكما هي الفلسفة أم العلوم، فإن السياسة في مجالاتها تكون الخيمة التي تتظلل تحتها العلوم الأخرى والتي لم يعد بالإمكان استبعاد منها علمي النفس والأنتروبولوجيا.

ضرورة إدخال علم النفس ضمن العلوم السياسية يأتي بعد شيوع سعة الإتصال السياسي بالناس من خلال وسائل التواصل الإجتماعي. وهي اللعبة التي يلجأ إليها بعض السياسيين على قاعدة يعتبرونها تكريساً لقدسيتهم من خلال فبركة الأخبار وصناعة ما هو كاذب وضخّه في هذه الوسائل؛ فتتلقاه الناس على أنه معلومات دقيقة ويصبح حتّى نفيه موضوعياً أو قضائياً أو جدياً غير قابل للتصديق. إنها لعبة إستباق الأحداث بالأخبار المختلقة، أو صناعة الوهج والأساطير بمعطيات غير موجودة، وهذا بحدّ ذاته يحتّم إجراء دراسات نفسانية لمن يرتكزون على هذا الفراغ في بناء وجودهم السياسي.

السبب الثاني الذي يحتّم ضرورة التماهي بين علم السياسة وعلم النفس، هو نشوب ظواهر تعيش حالات إنكار مستمرة في ممارستها السياسية. تعلن غير ما تضمر، وتفعل غير ما تقول. تكون في الموقع وتحمّل الآخرين مسؤولية التراجع في ما يقدّمه هذا الموقع. وهذا ما درج عليه أحدهم في لبنان منذ سنوات، وفيما ظنّ كثر أن ثورة الشعب اللبناني قد تهزّ سريره وتوقظه من سبات سريرته، أثبت الرجل مجدداً أنه لا يزال يعيش حالة إنكار للواقع. فكان المثال الحيّ للشيزوفرينيا، التي إذا ما اجتمعت مع الموقع السياسي، لا تؤدي فقط إلى تشظّي شخصية صاحبها، إنما تشظّي البلاد ومؤسساتها، وتؤسس لإنقسامات فيها بين مكوناتها.

ربما لم يعد هذا النوع من السياسيين بحاجة إلى ردود، طالما أنهم يجانبون الفقه، أو يمتهنون التزوير والإدعاء والإنكار، ربما عن قصد أو عن حالة متجذرة في دواخلهم فتحجب عنهم النظر بعين الموضوعية. لكن ربما ما يفيدهم هو قراءة الكتاب، وطبعاً اكثر ما يفيد الناس هو قراءة هذا الكتاب، لفكفكة هذه النماذج وعدم جعلها مستمرة في عمليتها الممنهجة لتآكل العقول، لصالح الإنفصام، والجشع بارتداء زيّ التسول والتوسل.