Advertise here

القرية الصحية في عين وزين... من حلم الشيخ محمد أبو شقرا إلى المستقبل المتطور

08 كانون الثاني 2020 12:32:00 - آخر تحديث: 08 كانون الثاني 2020 13:01:40

عندما يسافر الطبيب المقيم في نهاية اختصاصه إلى أوروبا، أو أميركا، لتعميق و/ أو توسيع تحصيله العلمي، فإنه يجد نفسه في معظم الأحيان جزءاً من نظامٍ طبي يختلف كثيراً عن النظام اللبناني، لجهة التوزيع والتمويل والمتابعة.

أكثر ما لفتني بعد التطور التكنولوجي خلال العامَين اللذين قضيتهما في لوزان، سويسرا، كان نظامها الطبي. إنه نظامٌ موجّه إلى أقصى الحدود، بالرغم من أن البلاد من أكثر البلاد ليبرالية.  

إن المواطن لا يمكنه أن يتعالج على حساب الضمان الاجتماعي، كما هو الحال في فرنسا ولبنان، أو على حساب وزارة  الصحة، كما هو الحال في لبنان، وبعض الدول الشيوعية السابقة، بل هو  ملزمٌ بتأمينٍ صحي خاص يدفعه شهرياً ومقوننٌ من الحكومة، إلّا أن ذلك لا يخوّله اختيار الطبيب أو المستشفى.  لا يتمكّن المريض السويسري من الذهاب إلى طبيب الاختصاص مباشرةً، وعليه المرور بطبيب الصحة العامة الذي يعالج معظم الحالات، ويغربل الحالات المستعصية، ويحوّلها لذوي الاختصاص، وهو ما يوفّر الوقت والمال على المريض، وما يحافظ على الأسرّة في المستشفيات المتخصّصة للحالات التي يحتاج حقاً لدخولها. 

ولزامٌ على المريض مراجعة طبيب الصحة العامة المتفق عليه مع شركة التأمين، وليس أي طبيب صحةٍ عامة يختاره.  وإذا وجد طبيب الصحة العامة حاجةً لتحويل مريضٍ إلى طبيبٍ في مستشفى مختص، فلا يحق له التحويل إلى مستشفى يختاره المريض، بل عليه تحويله إلى المستشفى المركزي للكانتون الذي يقيم فيه، حتى لو لم يكن هذا المستشفى مميزاً لعلاج المشكل المشخّص. ساهم هذا النظام بعد عدة أعوام من النضوج والتطور في تعاون الكانتونات المتجاورة جغرافياً، حيث تركّز المستشفيات المركزية على ما ينقص جيرانها من اختصاصات، كما خُلق في الكانتونات الكبيرة، التي يتجاوز عدد سكانها 200 ألف نسمة، لا- مركزية لا بأس بها على الصعيد الصحي، بهدف تقليل الحاجة إلى التحويل إلى كانتونات أخرى. 

وفي منتصف فترة التدريب التي قضيتها  في الخارج، عدنا إلى لبنان في زيارةٍ مع الفريق السويسري الذي نعمل معه، وكان برئاسة البروفيسور  وسيم رفول، وهو من أبٍ لبناني وأمٍ سويسرية. تفضلت علينا الجامعة اللبنانية بمرافقة مدير الأقسام الجراحية فيها لنا، وهو البروفيسور جورج غنيمة. ودعتنا القرية الصحية في عين وزين لزيارة كافة أقسامها، بالإضافة إلى غداءٍ لبناني تقليدي للضيوف. 

إن أشدّ ما لفت نظر المراجع الطبية البيروتية واللوزانية، بعد الضيافة اللبنانية المميزة،  هو فكرة هذه المؤسّسة. صرحٌ بهذه الضخامة، وهذا التطور التكنولوجي، وهذا التشعّب في منطقةٍ جبليةٍ نائية بالمعنى الجغرافي، ومجهزٌ، ليس فقط للاختصاصات ذات الحاجة الطارئة، كعلاج أمراض القلب والعظام، بل أيضاً للتخصّصات  المستقبلية، كالعلاج الإشعاعي للسرطان، وجراحة الترميم والتجميل (وهو اختصاصي) والعلاج الفيزيائي... 

وهنا كان جواب القيّمين على هذه المؤسّسة عن علة وجودها واضحاً: "الله يرحم سماحة الشيخ محمد أبو شقرا". 

يروي لنا جدّي وأبي كمية الاحترام  لهذا الشيخ الجليل في الوجدان العام، نظراً لدوره البارز في شؤون الدنيا والدّين أثناء تسلّمه لمشيخة العقل. وذلك فخرٌ كبيرٌ لنا، أبناء الطائفة المعروفية. ولكن مفاخرتنا أمام ممثلين عن النظامَين الصحيّين اللبناني والسويسري، بنظرةِ هذا الشيخ الجليل المستقبلية بالنسبة إلى اللّا- مركزيه الصحية وأهميتها، فكانت شعوراً آخر.

 بعد هذه الزيارة بسنة، وقد أقول بسبب هذه الزيارة، وبسبب غبطتي تجاه من درّبني، وبما تمثّله هذه المستشفى، عدتُ إلى عين وزين نهائياً. 

وأول ما لفتني كانت ترحيب المستشفى الحار والمشروط في آن. 

ترحيبٌ بالمعنى الاجتماعي العائلي المعروف عن هذه المنطقة، وأهلها، وسكانها وأطبائها. ومشروط بمعنى أن أفراداً، ولجاناً وأطباءً، بالجمع نعم، أفراداً ولجاناً، وجميعهم مولجون بفحص الملف الطبي للطبيب المتقدم (من شهاداته، إلى سنوات التدريب، إلى العمليات التي قام بها، إلى نظرته للطب والصحه والانسان المريض، إلى فهمه لرسالة  هذه المؤسّسة اللا- ربحية). من كل هذا علمتُ أن الأمناء بمجلسهم، والإدارة بأطبائها المعروفين، يقودون هذه السفينة نحو مستوى  رفيعٍ لا نرضى أقلّ منه لأهلنا وجيراننا، وكل من يتّكل على هذا الصرح. 

وعلى صعيد أوسع، وبعد جولاتٍ وزياراتٍ عدة للأصدقاء والأقرباء، من حاصبيا إلى جزين، ومن الشوفَين إلى المتن، وجدتُ حركةً تصحيحية في نظرة المواطن في هذه المناطق للطبابة بشكلٍ عام، ولدور هذه  القرية الصحية المستقبلي بشكلٍ خاص. 

وجدتُ جيلاً بات يعلم أن الطب بات مكلفاً جداً، خاصةً متى كان متطوراً، ونوعياً، ودقيقاً. وأن الأطباء في جميع المؤسّسات، كما في أي مهنةٍ حرة أخرى، مختلفون في المدرسة التي أتوا منها، وأسلوبهم، وتقنياتهم تختلف مع مشاربهم. 

لقد تعلّم أهلنا أن الكنيسة القريبة تشفي، وأنها أيضاً توفّر وقت التنقّل وعناءَه إلى بيروت المزدحمة، ومستشفياتها الأكثر ازدحاماً. 

في الختام، نعم للّا- مركزية الإدارية. ونعم خصوصاً للّا- مركزيه الطبية. والنجاح للقرية الصحية في عين وزين.

(*) جراح تجميل وترميم مستشفى عين وزين

 

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.