Advertise here

أوراسيا بين العوامل السياسية والدينية

17 كانون الثاني 2019 13:41:00 - آخر تحديث: 17 كانون الثاني 2019 13:49:32

تنامي الدور الروسي على المستوى الدولي والإقليمي لا يمكن أن يُغطي على أهمية الحدث الذي حصل في 6/‏1/‏2019 في إسطنبول في بطريركية القسطنطينية المسكونية الأرثوذوكسية، حيث شهد ذلك اليوم حدثاً، وصفته أوساط كنيسة موسكو بأنه الأسوأ منذ 1000 عام، أي منذ أن انقسم ولاء المسيحيين بين كنائس شرقية تتبع القسطنطينية، وكنائس غربية تتبع الفاتيكان. هذا الحدث تمثل بتسليم البطريرك المسكوني بارثولوميو- وهو المرجع الأرثوذوكسي الأول في العالم - إلى المتروبوليت بيرياسلافسكي صك استقلال كنيسة أوكرانيا الأرثوذوكسية عن بطريركية موسكو.

ليس لنا الدخول في تفاصيل الأسباب الدينية لهذا الحدث وتبعاته الكَنسية، لكن ذلك لا يُقلل من أهمية هذا القرار على المستوى السياسي العام. ذلك أن تماسك الكنيسة الأرثوذوكسية في أوراسيا، كان سبباً رئيسياً للنفوذ السياسي الروسي - أو السلافي - على تلك البقعة المهمة من العالم، والتي تجمع بين شرق آسيا وغرب أوروبا، وفيها تفاعل حضاري كبير كان له تأثير في تاريخ السياسة الدولية، وكان مركزاً لاستقطاب قوى البر، أو «التيلورو كراتية» التي كانت تتزعمها روسيا على الدوام، بينما كان هذا المكان الوسطي من الكرة الأرضية عُرضة لأطماع قوى البحر، أو «التالاسوكراتية» التي كانت تتزعمها بريطانيا عبر التاريخ.

كان الروس على الدوام يعتبرون أنفسهم ورثة البيزنطيين منذ سقوط القسطنطينية في العام 1453 بيد العثمانيين، وعلى الدوام كانوا يخلطون بين «الديني والسياسي» منذ ذلك الوقت، ولعل مبالغتهم في اعتبار موسكو تمثل «روما الثالثة» بعد سقوط القسطنطينية واقتصار روما الأساسية على تمثيل الكنيسة الغربية دون غيرها من العام 1045 أيام ايفون الرهيب؛ كان العامل الذي استفاد منه البلاشفة فيما بعد، وقاموا بثورتهم الشيوعية في العام 1917، على قاعدة معادلة الأديان.

يقول الأوكرانيون: إن روسيا استفادت من تبعية الكنيسة الأرثوذوكسية الأوكرانية لكنيسة موسكو، وإن بعض رجال الدين كانوا يروجون للسياسة الروسية في أوكرانيا، كما أن أكثر من 10000 قتيل أوكراني سقطوا في الخلاف مع الروس معظمهم من الأرثوذوكس، وهذان الأمران كانا الأساس في دفع رجال الكنيسة الأوكرانية إلى التصويت على الانفصال، وبالتالي إقناع الكنيسة المسكونية في إسطنبول بالموافقة على استقلال الكنيسة الأوكرانية، بينما يعتبر الروس أن وراء قرار الانفصال غايات سياسية دولية تستهدف النيل من مكانة موسكو وقوتها، والقرار يأتي في سياق السياسة التي يعتمدها حلف الأطلسي بالتمدُّد إلى قرب الحدود الروسية، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أعطيا قوة معنوية كبيرة للقيادة الأوكرانية وشجعاها على كل خطوات الابتعاد.

سطوة السياسة الروسية في ظل القيادة المتماسكة للرئيس فلاديمير بوتين ستتأثر بالخطوة الأوكرانية، وستزيد حالة الانفصال الديني من مسافة الشرخ السياسي الواقع بين موسكو وكييف، كما أنها ستدفع موسكو إلى التشدُّد أكثر فأكثر مع الحراك الأوكراني البحري في مياه بحر آزوف الذي يحيط به البلدان، وهذا التشدُّد سيدفع كييف للطلب من حلفائها الغربيين الحماية، كما ستنطلق من هذا التشدُّد حملات التشهير السياسي بموسكو، على اعتبار أنها لا تحترم القوانين التي تكفل حرية الإبحار في المياه الدولية.

الغلبة السلافية الأرثوذوكسية بقيادة موسكو كانت واضحة عبر التاريخ على منطقة أوراسيا، كمنطقة وسطية بين الشرق والغرب، ولها مكانة جيوبوليتيكية مهمة في العالم. ومن عوامل القوة التي ساعدت موسكو على لعب هذا الدور؛ هو تأثيرها في الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية التي يتبع لها أكثر من 100 مليون مؤمن. كما أن الاتحاد السوفييتي السابق استفاد لاحقاً من هذا الامتداد.

تحاول موسكو اليوم التعويض عن بعض التراجع في الشمال الأوراسي، من خلال تقوية نفوذها السياسي والعسكري في الجنوب الأوراسي، وتحديداً من خلال تطوير علاقتها مع تركيا وعلى درجة أقل مع إيران، وفي تنمية دورها المحوري في سوريا، بحيث يتم استثمار هذا الدور على شاكلة واسعة وفي كل الاتجاهات.

لا تبدو موسكو ضعيفة في مواجهة التحديات السياسية والدينية، ولكن كما يقول المثل العامي: «الضرب على الخواصر أشد إيلاماً من الضرب على الأطراف، وألف عدو خارج البيت ولا عدو واحد داخل البيت».