Advertise here

انتصارات وهمية لا ترجمة لها لبنانياً... والعبرة بالتاريخ

17 كانون الثاني 2019 13:01:00 - آخر تحديث: 19 كانون الثاني 2019 12:28:48

   تعلّم الحكمة أن المنتصر لا يزمجر. من يهدر هاتفاً بانتصاراته، يكون باحثاً عما يملأ به خواءه وفراغه. يتسع مداه لمخياله، فلا يجد غير إثبات قوته أو وجوده بغير صوته وجهارته. من هذا المنطلق يجد اللبنانيون من يخرج عليهم ليل نهار، مدّعياً نصراً مؤزّراً، لا أفقَ له ولا ترجمة إلا في الظواهر الصوتية التي تجد مداها في فراغات لا يملؤها غير الصدى. حال المنتظر هذا، كحال الصارخ في برّية لا أحد سواه فيها، وعندما يرتدّ الصدى يظنّ أن ثمة من يلاقيه أو يستجيب لنداءاته.

تعزف تلك المقطوعة منذ فترة، معلنة الانتصار في سوريا، وتسعى إلى تكريسه في لبنان. تارة عبر استجماع بعض القوى لنفسها للإشارة إلى ثقلها عددياً، بلا أي جوهر أو مضمون. وطوراً عبر رحلات تجوب البلاد وتقلق العباد، ويعلن فيها أن على المهزومين قراءة فعل الندامة. وغالباً من يستعجل رزقه قبل أوانه عوقب بحرمانه. والظاهرة الجديدة التي يحاول البعض تكريسها في لبنان، هي فرض الانتصار كلامياً، استراقاً لبرهة قبل ظهور سرابه.

ومن يسعى إلى اختراع انتصار، أول ما يصبو إليه هو زرع الشقاق بين الأشقاء، والدخول إلى البيئة الصافية لإفسادها، تثبيتاً لقاعدة "دود الخلّ منه وفيه". وفق هذا المنظور فقط، تمكن قراءة الدعوات الهادفة إلى زرع الشقاق داخل البيئة الدرزية، أو خلق اصطفافات لا قاعدة لها ولا أساس، هدفها التشويش ولو حتّى في الإعلام فقط، على الدور التاريخي الذي اضطلع به الموحّدون الدروز على مدى قرون متعاقبة في تكوين لبنان وإستقلاله، وتثبيت عروبته. وهنا ينصح هؤلاء بالعودة إلى كتاب الدكتور عبد الرحيم أبو حسين الصادر عن دار الساقي والذي يحكي حكايات التمرّد الطويل للدروز تأسيساً للبنان الكبير قبل ولادة الفكرة لدى أي مكوّن آخر من المكونات اللبنانية. وهذه الحكايات هي التي أسست للبنان كدولة، استلهمها الموارنة لاحقاً واستندوا إليها، وبعد عقود التحق بركبها السنة والشيعة وغيرهم.

هذه النزعة الاستقلالية التي كان الدروز أوائل مكرّسيها في حقبة لم يجدوا فيها من يدعمهم في محيطهم، تبقى أساساً في تكوينهم الأنتروبولوجي والاجتماعي، وهي التي تؤسس في المفهوم السائد اليوم، حول تمسّكهم بأراضيهم التي قطنوها منذ مئات السنين، وثباتهم عليها، وهي الاستقرار في الجبال والمناطق الوعرة، التي تدلّ على صلابتهم واستعدادهم الدائم للمقاومة أو المواجهة، أو التحضير لتحركات تشكّل منطلقات استقلالية. وهذه لا تزال إلى اليوم، بحيث لا يترك إبن الجبل بيئته، وينزح إلى المدينة، بل يزورها نهاراً ويعود إلى عرينه ليلاً. في هذا المثال دليل انتروبولجي على ارتباط الدروز الوثيق بمنطق استقلاليتهم، ووحدتهم، وحرّيتهم وتحررهم من أسر المدينة، ومقاومة أي محاولة منها لجرفهم.

وفق هذه الثابتة علمياً، نفسياً ومعنوياً، لا يمكن للدروز الركون إلى حالات متأرجحة وفق ما تقتضيه مصالح متضاربة، تجمع حيناً وتفرّق أحياناً. ورياحها تفرض تحالفات تارة وخصومات أطواراً أخرى. لأن المثال بالنسبة إلى الدرزي يبقى الثبات، والركون إلى الارتكاز، وليس السير كما تشتهيه رياح غيره، وما يؤثّر فيه مفهوم الوحدة لا العصبية، والعقل وليس العاطفة أو الغوغائية السياسية. من هذه النزعة الثابتة في تاريخ لبنان، ينعقد المجلس المذهبي الدرزي في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان والمنطقة، للتأكيد مجدداً على الهوية الاستقلالية اللبنانية، والحفاظ على وحدة المؤسسات، درزياً ووطنياً، للوقوف سدّاً منيعاً بمواجهة أي محاولة لتسجيل خروقات من هنا أو هناك، أو لإضعاف البيئة أو الطائفة، استناداً إلى محاولات بعض الطامحين لاختراع تصنيفات أو تشكيلات لا تمثّل غير إضعاف الدروز وتكريس الشقاق بين الأشقاء. ومن يستند إلى رياح خارجية ليثبت انتصاره في زرع الشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة كما كان يفعل النظام السوري بين أبناء البلد الواحد، لا بد من تذكيره بأن المعركة لم تنتهِ. معركة وليد جنبلاط ومشيخة العقل، تبقى متسلّحة في العقل والحكمة، بوجه الإثارات الغوغائية، والثبات والتثبيت يرتكزان على رصانة العمل وهدوئه، وليس بارتفاع الصوت.