Advertise here

لبنان الفكرة بلا أفكار

16 كانون الثاني 2019 12:00:00 - آخر تحديث: 22 كانون الثاني 2019 16:42:03

في أصعب أيام الحرب التي عصفت بالبلاد، ويوم كانت المعابر مقفلة والمقابر مثقلة بجثث الأبرياء والشهداء، كل الشهداء في كل بيئاتهم، ويوم كان التخاطب بالقنابل والأسلحة المسمومة، وبالقنابل الصوتية الكلامية المحمومة، لم ينقطع التواصل بين اللبنانين، بين القادة المتقاتلين، لم تنقطع إرادة التواصل بينهم، لإدارة العلاقة بين أهل البلد والبحث عن مستقبلهم المشترك. نعم هذه حقيقة. لا يعرف اللبنانيون أن اتفاقات لوقف إطلاق النار على المعابر كانت تعلن فجأة فيعتقدون ان ثمة تطوراً ما قد حصل أدى الى ذلك، إلى هدنة أو تهدئة، حتى يصابوا بصدمة بعد ساعات أو أيام فتعود الجبهات الى الإشتعال. أما الحقيقة فالدافع الى فتح معابر أحياناً كان سببه تأمين مرور هذا أو ذاك من والى هذه المنطقة أو تلك لنقل رسالة وتبادل أفكار مع الطرف الآخر. استخدمنا كل معارفنا وصداقاتنا ورفقتنا المدرسية أو الجـامعية للقيام بهذا الدور. لم ننجح كثيراً. ولم يتحقق ما كنا نريده في محاولات كثيرة. كان ثمة إنفعالات وسوء تقدير وسوء تدبير واستقواء بتطور خارجي أو بطلب خارجي وكانت إرادات كبيرة وقوية متعددة تتجاوز أحياناً إراداتنا لكننا على الأقل كنا نكرّرالمحاولة. ولا أبالغ إذا قلت ومن موقع التجربة العملية الشخصية وإلى جانب الزعيم الوطني الكبير وليد جنبلاط كنا نبحث عن بعض لنبحث مع بعض كيف يمكن الخروج من المأزق. كيف يمكن وضع حد للتدهور والانهيار. كيف يمكن اقتناص فرصة للتلاقي. وقد دفعنا ثمن ذلك شهداء أحياناً ومتاعب ومصاعب وتهديدات واستهدافات احياناً اخرى .

 اليوم، أمن واستقرار في البلاد. ونحن نتلاقى في المجلس النيابي والحكومة والمؤسسات والواجبات والمناسبات ولكننا لا نلتقي. اليوم الطرقات مفتوحة وقنوات الاتصال مفتوحة والهواتف الذكية في متناول كل فرد، لكن لا تواصل ولا اتصالات ولا ذكاء ولا تبصّر بل محاولات لإقفال الطرقات ومنع التلاقي وإمعان في ممارسة ترف العناد المكلف والابتعاد عن شرف الجهاد المشرف لإخراج البلاد من أزماتها. نبدو عاجزين عن فعل الصحّ مميزين بارتكاب الخطأ والتحدي. نقرّ بالأزمات ونبالغ أحياناً في تصويرها، ونستمر في تسميم الأجواء وتعكيرها وتوتيرها. نجمع على المخاطر المالية والسياسية والأمنية، من الجنوب، من اسرائيل الى تداعيات ما يجري في سوريا، والمنطقة، الى الإرهاب وغيره. ولا نتفق على فكرة أو رأي للمواجهة. نتحدث عن الحرية والديموقراطية ونثبت أننا لم نعد جديرين بممارستهما، بعدما أثبتنا أننا جديرون بالنضال من أجلهما وقد قدمنا الكثير من التضحيات في هذا السبيل. كأننا نعيش في حال من الفراغ. لا برامج. لا أفكار. لا حركات طلابية وشبابية ونقابية وعمالية. لا إدارة عامة. لا جامعات تخرج منها الأفكار. لا كبار. لا برامج تغذي عقولنا وتنمي معرفتنا وثقافتنا في الإعلام ومواقع التواصل الكثيرة والتواصل الحقيقي غائب. 

لا. ليس هذا لبنان الأساس. ليس هذا لبنان الذي تعلّمناه وعرفناه وتعلّمنا فيه وتعلّم فيه وبنا الدبلوماسيون الأجانب. لبنان الجاذب لكل الدبلوماسيين والسياسيين . لبنان التواصل والحوار والكبار ومنتج الأفكار. لبنان الحيوية والدينامية والمدرسة والجامعة والحرية والشباب والتطلعات. لبنان التنوّع السياسي والطائفي والفكري. لبنان الكتاب المفتوح الذي لا تنتهي صفحاته ومدونات الأدباء والمفكّرين والمشرّعين والشعراء والسياسيين والقانونيين والباحثين. لبنان الفكرة الاستثنائية الأنموذج الفريد في هذه المنطقة. فهل يمكن للبنان الفكرة أن يعيش بلا أفكار؟؟ ساعتئذ لا يعود لبنان. واجبنا اليومي في الحياة العامة والأحزاب وكل المنتديات والساحات أن نعمل ليبقى لبنان ويعود الفكرة المميزة التي منها تنطلق البرامج والأفكار ويكون الصراع السياسي والفكري صراعاً حضارياً ثقافياً قائماً على التنافس بالعقل والمنطق والعلم من أجل لبنان الواحد، لبنان الدولة، الدولة الجامعة، الدولة الراعية، التي تكاد فكرتها تموت بفعل استباحة كل شيئ فيها ووقاحة المستبيحين وإنكفاء المواطنين وكل المعنيين عن المساءلة والمحاسبة. فأبرز ما يجب أن نقاوم هو فكرة التطبّع مع الوضع القائم، والاستسلام الى قناعة أننا لسنا قادرين على فعل شيئ. لقد أثبتت إرادتنا كل من موقعه  أننا قادرون على فعل الكثير الكثير ولولا ذلك لما كان كلّ منا يتغنى بتـــاريخه وتضحياته. فهل نذهب جميعاً الى التضحية بها عندما يسقط لبنان وتسقط الفكرة ولا يكون ثمة أفكار؟؟

هموم أهل البلد واحدة. لكن اهتماماتنا ليست واحدة. لبنان البلد الفكرة هو البلد الواحد. فلتكن الدولة واحدة وليكن خلاف بالأفكار فوق المذهبية والطائفية ولغة الحقد والتحريض وسياسات العبثية المدمرة. 

قال أحدهم: "نحن اخترعنا الحرف وأولادنا لا يعرفون الإملاء". علّق آخر على القول: لكن الخطر الأكبر أن يكون "الكبار" يستهويهم الإملاء عليهم!! وأن نكون أمام "حروف لا تقرأ".