Advertise here

بيروت الحزينة من دون معرض الكتاب

29 كانون الأول 2019 13:05:09

ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، هو شهر الكتاب، وشهر التسوق، وشهر الأعياد والميلاد. كانت بيروت تعجّ برواد المعرض العربي والدولي للكتاب، وبزائريها من كل أقطار العالم، ومن مغتربات الجهات الخمس. ويصادف في ديسمبر أيضاً يوم اللغة العربية التي تئن تحت ضربات غير محسوبة قادمة من وراء فوضى التغريب المُهيب، وهي تلاقي في بيروت من يدافع عن بقائها أكثر من أماكن كثيرة.
بيروت هذه الأيام حزينة، مُتألمة، ترى بوضوح بين أزقتها ملامح الخوف، والبؤس، والقلق. زوايا الفرح التي تتميز بها بيروت محشوة بالهموم والمصاعب، وفيها الناس أجناس، منهم مَن يُفتش عن أمل ضائع، ومنهم من يخاف على الغد من غدر الزمان، ومنهم من بدأ يتعايش مع مستوجبات الانتفاضة على الخلل القائم، ويرى أن هذا الخلل الذي تجاوز كل الحدود؛ لا يمكن إصلاحه إلا بالتضحيات الجسام، ومن هذه التضحيات؛ قبول الحرمان مؤقتاً، للوصول إلى وضعٍ أفضل يؤمّن مقومات العيش الكريم، أو العيش بكرامة.
منذ 62 عاماً على التوالي؛ لم يتم تأجيل معرض بيروت العربي والدولي للكتاب إلا في العام 2008، حيث كان وسط بيروت مقفلاً بالاعتصامات، والاعتصامات المضادة. وقرار تأجيل تنظيم المعرض عاماً كاملاً لهذه السنة؛ فرضته الظروف القاهرة التي تعيشها بيروت، كما قال بيان «النادي الثقافي العربي»، و«اتحاد الناشرين» اللذان يشرفان على تنظيم المعرض. وهذه الظروف القاهرة تعني أن بيروت تحت ضغط اضطرابات أمنية وصعوبات اقتصادية، كما كان عليه الوضع في العام 2008، وأكثر. ولكن في العام 2008 تداعى أصدقاء لبنان لإنقاذه من خلال فرض تسوية يبدو أن مفاعيلها قد تلاشت. لكن اليوم يبدو أن أصدقاء لبنان غير مبالين، أو أن لبنان قد فقد أهم أصدقائه.
وبيروت الجميلة؛ المطر يُغرقها، والحرّ يخنقها، وهي وردة ذابلة بين لهيب الحرّ، وبللِ الغرق، وهي لا تعيش بلا كتاب وبلا كتَّاب، ولا تدور دورة حياتها بلا ضيوف وبلا وافدين. وهذه البيروت الجميلة تتخبط بمشكلاتها التي لم تر بمثل ثقلها منذ نهاية الحرب قبل ما يقارب 30 عاماً. فيها اليوم ثورة شعبية عارمة ترفض نمطية الحكم القائمة على المحاصصة الطائفية والمذهبية، وهيمنة السلاح غير الشرعي، وتطالب بالتغيير. وفيها طبقة سياسية مُتهالكة، ولكنها تملك إرادة تصميم - أو عناد - تفوق كل تصور، وسط ظروف معيشية صعبة، وتراجع اقتصادي كبير، وارتباك مالي يُنذر بمضاعفات مخيفة.
بيروت عروسة الأعياد ترفض أن ترتدي ملابس العرس. فالشوارع التي تُبهر العالم بحسن زينتها قبل حلول نهاية كل عام جديد؛ مُعتمة وبلا زينة، وساحاتها التي كانت تشعّ بأشجار الميلاد تفتقر إلى أغلبية هذه الأشجار هذا العام، وبدل أنوار الزينة وأشجار الميلاد؛ تنتشر خيم المنتفضين في الساحات، وتبدو آثار احتراق إطارات السيارات على اليمين، وعلى الشمال. وعلى بعض طرقاتها آثار واضحة للفوضى التي تركتها الاشتبكات اليدوية الممهورة بإطلاق صواريخ المفرقعات التي لم تستخدم هذه المرة تعبيراً عن البهجة والفرح، بل أُطلقت لإرباك القوى الأمنية، وإشاعة أجواء الفوضى.
وإذا كانت السَمَكة لا تعيش إلا وسط المياه؛ فبيروت لا تعيش إلا مع الحرية، ومع التنوّع، ومع الانفتاح. مَن أراد أن يضعها في موقع لا يناسبها مُخطئ، فهي مدينة تاريخ، ومدينة معاصرة في آن.
بيروت مُربكة، ومترددة، يدق الفقر أبواب منازل أغلبية قاطنيها، ويلفها الخوف السياسي من الجهات الأربع. هي تحتضن الضحية، وتحتضن الجلاد في آن واحد. وهي منارة للعلم والثقافة والحوار، وفيها من البلطجية والمستبدين ما يكفي لتعكير صفو محيط. ورواد الثورة جيران مع رموز السلطة، وربما يسكن بعض من هؤلاء وأولئك في بناء واحد.
بيروت مدينة لا تموت، وإذا سقطت تعود وتنهض، وإذا نجح البؤس في تكفينها؛ لا تخاف، فهي تعيش ولو لُفت بكفن.
وبيروت لا تجوع من جراء النقص المتوقع في المواد الغذائية فقط؛ بل إنها تجوع ويصيبها الوهن إذا ما غاب عنها الكتاب والمثقفون، وإذا فقدت أعراسها وسهراتها وجلسات المقاهي فيها، وإذا لم تُحي أعيادها على ما درجت العادة.
بيروت مدينة الحياة، والحياة وقفة عز لا يعيش مجدها إلا الأقوياء في نفوسهم، وليس الضعفاء