Advertise here

قصة الشيخ والمطران و"الدار"

28 كانون الأول 2019 22:37:19

لعلّ من أنبل المقاصد التي يسعى اليها الإنسان هي فعل الخير بما تسمو به الإنسانية، تشبّهاً بالملائكة والصالحين، وبما أوصت به الأديان جميعها. فكما الإسلام دعا لفعل الخير مع الآخرين، بغضّ النظر عن معتقداتهم وأجناسهم، بقوله تعالى: "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير". وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تحثّ على فعل الخير، ومنها ما قاله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذىً لهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". كذلك شدّد الكتاب المقدّس على فعل الخير بعددٍ من الآيات ومنها، "أَيْنَ رَجَاؤُكَ الَّذِي لأَجْلِهِ كُنْتَ تَبْذُلُ الصَّدَقَاتِ وَتَدْفِنُ الْمَوْتَى؟"، و"لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ" (رسالة بطرس الرسول الأولى 3- 11).
 
ولئن كان زماننا أحوج ما نكون فيه إلى تعزيز روح العطاء، والشعور بالمسؤولية تجاه المحتاجين، وتعزيز التعاون داخل المجتمع، بعد أن بلغ بنا الانهيار مراحل متقدمة، وعلى قاب قوسين أو أدنى من الإعلان الرسمي له، مع تفاقم الوضعين الاقتصادي والمعيشي إلى حدود أعادت ذاكرة اللبنانيين إلى عام 1914، وما شهده من مجاعة لا تزال ماثلةً ذكرياتها، الأمر الذي يستوجب تكاملاً وتعاوناً من أجل القيام بهذه المسؤوليّة الكبيرة.

ولئن كانت الإنسانية لا تتجزأ سنعرض ثلاث حالاتٍ تشبه إلى حدٍ كبير وقتنا الراهن. الأولى للأمير سيف الدين التنوخي الذي كان يجول في تلك المرحلة ببغلته على القرى، وقد وضع على ظهرها سرجاً من كفّتين مليئتين بالمال، وراح ينادي القوم "من يحتاج يسحب من كفة، ومن له فوق حاجته يضع في الكفة الثانية". وبعد أسابيع عادت البغلة إلى عبيه والسرج ملآن كما انطلقت.

والثانية أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث وقعت مجاعة "سفر برلك"، ففتحت البطريركية الأرثوذكسية في دمشق، وسيّدها آنذاك البطريرك غريغوريوس حدّاد أبوابها لإطعام الجياع والوافدين من بيروت دون تمييزٍ بين دينٍ أو مذهب. ومع ارتفاع سعر القمح كثيراً اضطر البطريرك إلى رهن أوقاف البطريركية والأديرة كلّها، وباع مقتنيات وأواني الكنائس الذهبية والفضية كي يشتري القمح لينقذ الناس من شبح المجاعة القاتل. وكان كل من يمرّ على الكنيسة المريمية يأخذ رغيفاً من الخبز يقيه الموت.

وفي أحد الأيام اشتكى الخوري الذي يوزّع الأرغفة من كثرة عدد المسلمين، فرفع البطريرك الرغيف وسأله، "هل كُتبَ عليه، 'للمسيحيين فقط؟'"

فأجابه: لا.

فَقَال: عليك توزيع الخبز بمعدل رغيف يومي لكل من يريد.

وتدريجياً لم يبقَ شيء من أملاك البطريركية لم يتم رهنه.

في أحد الأيام طلب متسوّلٌ من البطريرك حسنةً، فسأله أحد الإكليريكيين المرافقين له عن طائفته. انتهره البطريرك قائلاً: "هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من طائفة غير طائفتك؟

ألا يكفيه ذُلاً أنه مدّ يده إليك  لتُذِلَّه بسؤالك عن عقيدته؟!"

رثاه الشيخ مصطفى الغلاييني بقوله: نعيتُ إلى أمي العجوز نبأً مفاده: لقد أصاب العرب مصابٌ عظيمٌ أليم. فأجابتني: هل مات البطريرك أبو الفقراء؟..

بكاه المسلمون قبل المسيحيين، وكانوا يلقّبونه ب  "أبي الفقراء".

والثالثة أنا شاهدٌ عليها، وتعود إلى سنوات عدة عندما حضرتْ إلى دار المختارة سيدةٌ بيروتية تحمل ولدها الذي يحتاج إلى إجراء عملية جراحية عاجلة، وكان ذلك في الوقت غير المسموح للاستقبالات العامة، فقال المرحوم أبو سليم صفا للزعيم وليد جنبلاط إنه ثمة امرأة عندها حالة خاصة، وسرعان ما ذهب وليد جنبلاط إلى الخارج قائلاً: ما بكِ يا حجّة؟ فقالت، "صغيري يحتاج إلى عمليةٍ جراحية عاجلة في الرأس، وأمامه أيام بحسب طبيبه، ولا أملك المال. ذهبتُ إلى دار آل ... أعطوني 100 دولار، واستحصلتُ من فلان... وفلان...(أتحفّظ عن ذكر الأسماء) على 400 دولار، وبقيت حاجتي الى 4500 دولاراً، ولم يبقَ لي سوى هذه الدار. إذ ذاك ذهب جنبلاط إلى غرفة "المطبخ"، ونادى نجله تيمور الذي كان لا يزال صغيراً حاملاً معه مبلغاً من المال في مظروف، وقال له ما معناه هكذا حالاتٍ إنسانية لا تتأخر عليها في العطاء. وقال للسيدة هذا ثمن العملية، وما جمعتِه ليكن مصروفاً لك". قال ذلك دون السؤال عن هوّيتها، ومن أي منطقةٍ أتت.

قصدتُ التدليل على الأمر ليس تبجيلاً، بل لأعكس أهمية العملين الإنساني والاجتماعي اللذين يجب أن يبقيا مميّزين في عادات وتقاليد اللبنانيين، وأبناء الجبل خصوصاً. وحيال الأزمات الاقتصادية على الفقراء تحديداً، والذين باتوا يشكّلون أغلبية الشعب اللبناني، أن يتحدوا أمام الآتي من الأيام.