Advertise here

آفة الفساد وأدوات الوقاية

28 كانون الأول 2019 11:29:00 - آخر تحديث: 28 كانون الأول 2019 11:30:02

"Eliminate corruption to build sustainable, inclusive and transparent societies"
مقدمة:
تعرّف منظمة الشفافية الدولية (TI) الفساد بأنه " إساءة استغلال السلطة المؤتمنة من اجل المصلحة الشخصية"، أي استغلال منصب/ سلطة ممنوحة سواء في القطاع العام أو الخاص لمصلحة خاصة، سواء كانت مصلحة شخصية أم كانت تتعلق بعدد محدد من الناس.
تكمن خطورة آفة الفساد في القدرة على التغلغل – كأطراف الأخطبوط - الى عمق كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (تجارة، صحة، تعليم، قضاء، انتخابات، بيئة...) لتضعفها وتفسدها الى حدّ الاهتراء، الى ان يصبح أمر اصلاحها صعباً للغاية. لذلك، سعت المنظمات العالمية منذ عقود لمكافحة الفساد على اعتبار انّها آفة دولية، واعلنت الامم المتحدة عن اليوم الدولي لمكافحة الفساد في 9 كانون الأول، وأهم هذه المنظمات الدولية: مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، منظمة الشفافية الدولية (TI)، غرفة التجارة الدولية (ICC)، مبادرة شراكة المنتدى الاقتصادي العالمي لمكافحة الفساد (WEF-PACI)، ومعهد بازل للحوكمة...
 

اولاً: البيئة الحاضنة لآفة الفساد
لا يوجد مجتمع محصّن من آفة الفساد، فلا علاقة بين الديمقراطية أو الاستبدادية والفساد، ولا علاقة بين الدول الفقيرة او الغنية  والفساد، ولا علاقة بين الأمّية او التعلم والفساد، ذلك ان البيئة المواتية لنمو الفساد هي في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية كافة بغض النظر عن طبيعتها وخصائصها؛ وان كانت هذه العوامل تؤثر على نسبة الفساد، حيث تتفاوت هذه النسبة بين الدول استنادا الى رصد المنظمات العالمية المذكورة اعلاه. فوفقاً لمنظمة الشفافية الدولية   تصدرت الإمارات العربية المتحدة قائمة الدول العربية المكافحة للفساد تليها قطر وسلطنة عُمان، فيما وقعت كل من سوريا واليمن في ذيل القائمة عربيا وعالميا لعام 2018. أين موقع لبنان بين الدول العربية بالنسبة لهذا المؤشر؟

لبنان من الدول العربية التي لا تزال في موقع متدني بالنسبة لمكافحة الفساد، الا انّ التقرير اكد على انه سيكون في دائرة الضوء والتركيز(مع الأردن)، على اعتبار انه لا يعاني من الحروب والاضطرابات، ولكنه يعاني من الفساد الذي يشكّل العائق الأساسي امام اصلاح النظام السياسي ونمو النظام الاقتصادي والمالي والاجتماعي. ولعلّ ما نشهده اليوم في لبنان من تدارك لحجم كارثة الفساد وتأثيره على بقاء كيان الدولة، دفع الى الاسراع بعقد ورش تشريعية وتنظيمية لإقرار قوانين وتنظيمات تتعلق بمكافحة الفساد، تواكب ورشة نهوض اقتصادية ومالية تحت مسمّى شروط/ إصلاحاتٍ لعبور سيدر وقروضه الممنوحة إلى الدولة اللبنانية. لكن تبقى عمليّة قياس مؤشرات الفساد وكلفته الاقتصادية معقّدة للغاية، وتشكل تحدّياً كبيرا في لبنان بسبب عدم توفر معلومات وإحصاءات ودراسات دقيقة. 

ثانياً: الفساد وحقوق الانسان
انطلاقا من الترابط  الجذري بين مكافحة الفساد من جهة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة (اجندة 2030) من جهة أخرى، نتساءل عن مدى ارتباط منظومة الفساد بالتأثير على حقوق الانسان؟

تعتبر أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر شاملة لأبرز الحقوق التي تنادي بها الاتفاقيات والمواثيق الدولية للإنسان وللأجيال المستقبلية، وتسعى المنظمات الدولية من خلال خطط توجيهية ارشادية الى تطبيقها بحلول العام 2030. بالمقابل، يعتبر الفساد العدو الشرس والمعرقل الأساسي لتطبيق أهداف التنمية المستدامة وحقوق الانسان بمختلف الابعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتنموية والسياسية والادارية...  
انّ الدول التي تتصدر قائمة الفساد تعاقب من قبل المجتمع الدولي بتخفيض نسبة المساعدات والقروض والهبات المقدمة لها بسبب فقدانها لعامل الثقة والشفافية، مما يؤثر سلباً على الاقتصاد وعلى القدرة التنافسية للقطاعات الانتاجية. وبالتالي وفي ظل غياب تدفق الاستثمارات لا سيما الاجنبية منها، تتعرّض الدولة لأزمات نقدية تقلل من النمو الاقتصادي وتضعف عمل المؤسسات وتقضي على الموارد المالية والبشرية والطبيعية، ما يؤدي بطبيعة الحال الى هدر المال العام وتراجع المستوى المعيشي وقضم حقوق الانسان على كافة المستويات. وفي حال وجود طبقة سياسية تشكّل حصن حمائي منيع لحماية الفساد والمفسدين، نكون اما نظام تغيب فيه المؤسسات الرقابية القوية والحكم الرشيد والشفافية والمساءلة والقضاء العادل والنزيه والسلام والحرية، مما يؤدي لا محالة الى التطرف وانتشار البطالة والفقر والجهل وتهميش الافراد وهذا يولد حرب "البقاء على قيد الحياة"، وبالتالي ضرب أهداف التنمية المستدامة بعرض الحائط. 

لنأخذ مثلا تأثير الفساد على قطاع الأعمال، حيث أنّ نسبة الرشاوى الباهظة لإرساء الصفقات والاستحواذ على المشاريع وتخليص المعاملات بسرعة من قبل الشركات الكبرى (كارتل رجال الاعمال والسياسيين)، يحدّ من قدرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر SMEs حتى عن المشاركة في الاعمال التجارية ومنافسة الشركات الكبرى، وهذا ما يقوّض مفهوم المنافسة وتأثيرها الايجابي على الخدمة، ويضعف الثقة بالحكومة وقدرتها على حماية المستثمرين. وعليه، تتجمّد المشاريع الاستثمارية والتشغيلية لتتجنّب التورّط بمخاطر مالية في ظل هيمنة الفساد وتغطيته، وما يستتبعه من حرمان شريحة كبيرة من المواطنين من الاستفادة لأبسط حقوقهم من فرص عمل، ومستوى معيشي لائق، وخدمات ذات جودة عالية وكلفة بسيطة. 

ثالثاً: أدوات الوقاية من آفة الفساد 
بناءً على ما تقدّم، ما هي أدوات مكافحة/ الوقاية من/ آفة الفساد؟
انطلاقاً من مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ومخططها التنفيذي 2018 – 2023، انّ العنصر الأساسي لمكافحة الفساد يكمن أساسًا في وجود إرادة سياسية وإدارية وقضائية وتربوية واجتماعية مطلقة وغير مشروطة، تكون على قناعة مطلقة بأن البلاد لا تنتظم والمصلحة العامة لا تتحقق إلا بمحاربة الفساد والوقاية منه من خلال رباعية الاهداف التالية:
•    إرساء الشفافية
•    تفعيل المساءلة
•    الحَدُّ من الاستنسابية في عمل الإدارة
•    منع الإفلات من العقاب 

على أهمية الاهداف المذكورة اعلاه، الاّ انّ المطلوب بإلحاح وعلى عجالة تأمين منظومة قانونية كاملة لمكافحة الفساد، حيث لا تنتظم أي عملية اصلاحية الاّ في كنف مظلة قانونية رادعة شاملة لمحاربة الفساد، تكون اداة فعّالة بيد الارادة السياسية والادارية والقضائية.... ولتعزيز مبدأ الشفافية في القطاع العام، ومبدأ المساءلة وتطبيق الحوكمة الرشيدة، وبالتالي دعم اهداف التنمية المستدامة. فالمطلوب آلية جدية لإقرار/ تعديل/ تفعيل القوانين الاصلاحية المتعلقة بمكافحة الفساد ووضع الآليات اللازمة لتنفيذ احكامها فعليا وعدم التحجّج بغياب المراسيم التطبيقية او الهيئات الخاصة بها، لا سيما: 

I.    قانون "الاثراء غير المشروع" رقم 154 تاريخ 27/12/1999 (قانون من أين لك هذا)، هذا القانون غير قابل للتطبيق بأي فعالية، إن كان لجهة نظام التصريح عن الذمة المالية من قبل المسؤولين والتي تتمّ بسرّية مطلقة أو بنظام فرض كفالة مصرفية على الشاكي كي تقبل شكواه!!

II.    "اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد" التي صادق عليها لبنان بموجب القانون رقم 33  تاريخ 16/10/2008 ، واصبح دولة طرف فيها رسميا بتاريخ 22 نيسان 2009،  ولكن تبقى الدولة ملزمة بإدخال مبادئ وقواعد الاتفاقية عمليّاً في قوانينها لا سيما لجهة إنزال العقاب بمرتكبي أعمال الفساد وضمان حماية المبلغين/ الكاشفين عن الفساد. 

III.    قانون "حق الوصول إلى المعلومات" رقم 28 تاريخ 10/02/2017، الذي يعد عامود قوانين مكافحة الفساد، ويضع القطاعين العام والخاص تحت مجهر الرأي العام ويسمح بتوسيع نطاق الشفافية، والذي لا يطبق من قبل الادارات لغاية اليوم بحجّة أنه يحتاج إلى مراسيم تطبيقية.

IV.    قانون "حماية كاشفي الفساد" رقم 83  تاريخ 10/10/2018، المتوقف تطبيقه - كما قانون حق الوصول الى المعلومات- على انشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

V.    قانون مكافحة الفساد في عقود النفط والغاز(قانون دعم الشفافية في قطاع البترول)، رقم 84 تاريخ 24/9/2018، الذي يتطلب تطبيقه انشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وصدور مراسيم تطبيقية توضح كيفية نشر المعلومات والإفصاح عنها.

VI.    اعادة اقرار قانون مكافحة الفساد في القطاع العام الذي اقرّه المجلس النيابي بتاريخ 26/6/2019، وردّه رئيس الجمهورية الى مجلس النواب بتاريخ 25/7/2019، بعد ابداء عدة ملاحظات عليه، على اعتبار انّه من ضمن سلّة الشروط الإصلاحية لمؤتمر سيدر؛ الى جانب أهمية اقرار قانون "مكافحة الفساد في القطاع الخاص" ايضاً لاستكمال كافة التوجيهات المطلوبة في الاتفاقيات الدولية. 

VII.    تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المنوه عنها اعلاه، تكون مهمتها اجراء التحقيقات الشفّافة واتخاذ الاجراءات الاحترازية بحق الفاسدين (مثل رفع السرية المصرفية والحصانات) وتطبيق القوانين السابق ذكرها. 

VIII.    العمل على انضمام لبنان الى اتفاقية "مكافحة رشوة الموظفين العموميين الاجانب في المعاملات التجارية الدولية" ولاتخاذ التدابير الوقائية المناسبة للرقابة على المعاملات الادارية. 

IX.    وضع المخطط التنفيذي للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في لبنان، والتي ارسلت الى مجلس الوزراء لإقراراها بتاريخ 24/9/2019. 

X.    اقرار قانون المنافسة، حيث أودع مشروع قانون يرمي الى تنظيم المنافسة الامانة العامة لمجلس الوزراء بتاريخ 21/11/2019، لمكافحة الممارسات والامتيازات الاحتكارية، والتصدّي لعمليات التواطؤ في معظم القطاعات الاقتصادية والخدماتية العامة والخاصة. 
...."ويبقى التنفيذ".

قبل الختام، لا بدّ من الاشارة الى أنّ التطبيق الفعلي والجدي لهذه القوانين يتطلب:
•    فصل السلطات، وضمان استقلالية ونزاهة القضاء، وتفعيل وتقوية دور الاجهزة الرقابية.
•    اطلاق ومساندة الحرية الإعلامية للكشف عن الفساد.
•     دعم المجتمع المدني في تنفيذ مبادرات نوعية للتوعية على خطورة آفة الفساد وتشجيع رقابة الرأي العام ودوره في الإبلاغ عن الفاسدين.
•    تبسيط الاجراءات الادارية وتطوير نظام الرقابة على الصفقات العمومية في الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات وسائر الهيئات واللجان وأشخاص القانون العام التي تتولى إدارة المال العام.