Advertise here

التغيير المنهجي المطلوب في الثقافة الإقتصادية

26 كانون الأول 2019 08:02:13

حلّت الأزمة الإقتصادية على الشعب اللبناني في أسوأ مراحلها، حيث إلتقت البطالة مع قلة الإنتاج وتوقف الإستثمار وإرتفاع الأسعار وحجز أموال المودعين في المصارف بشروط قاسية، لتنبئ بمستقبل مظلم يخلو من أي بصيص أمل لتحسن الأوضاع في المدى المنظور.

طبعاً هذا التراكم للمشاكل والذي إنفجر بشكل مرعب، ليس وليد صدفة؛ ولكنه نتيجة الثقافة الإقتصادية التي كانت تتبناها الدولة اللبنانية والتي إنخرط فيها الشعب اللبناني. وبغض النظر عن ما يحكى من حصار وضغوطات خارجية مالية على لبنان، فمنذ إرتفاع سعر صرف الدولار في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي أصبح هَم المواطن اللبناني التداول بقيمة الدولار الفعلية والإحتفاظ به كودائع لدى المصارف، وعليه أصبحت التسعيرات من مشتريات ويد عاملة تحدد وفق القيمة بالدولار، أي أن لغة التداول بين الناس هو الدولار الأميركي بكافة التسعيرات، وطبعا هنا وقع الشعب اللبناني في مطب ثقافة الدولار على حساب العملة الوطنية.

كما وأن اللافت أن الصراف الآلي في كافة دول العالم يعطي فقط العملة الوطنية إلا في لبنان حيث يعطي الليرة والدولار على حد سواء، وهذه السياسة المالية الخاطئة التي أرسى قواعدها المتحكمون في سياسة النقد عززت التداول بالدولاتر الأميركي.

من جهة أخرى وبسبب الحروب المتنقلة التي شهدها لبنان منذ عام 1975 أصبح هدف اللبنانيون الدخول في قطاع البناء الذي يدر الربح السريع، فإنتعش هذا القطاع بشكل متسارع على حساب القطاعات الأخرى ومن الطبيعي أن يضعف الإنتاج المحلي وتحديدا الزراعة في الأرياف بسبب الهجرة الداخلية من الريف إلى بيروت بحثا عن مورد رزق والهجرة الخارجية من لبنان إلى دول الإغتراب بسبب غياب فرص العمل.

ولا يغيب عن بالنا مطلقا الدور السلبي للمصارف التي كانت تتباهى بجني الأرباح السنوية الطائلة، فكانت تمول الدولة وفي نفس الوقت تدعم ماديا القوى السياسية التي بدورها تسن القوانين في مجلس النواب التي تتلاءم ومصالح المصارف في زيادة أرباحها.

هذا جزء بسيط من الأسباب الموضوعية التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على الأزمة الحالية، وأمام هذا الواقع لا بد من إعادة البوصلة الإقتصادية إلى مسارها السليم في بلد صغير بحجمه وبموارده كلبنان من خلال دعم الصناعات الخفيفية وتشجيع قطاع الزراعة، وهذا يتطلب تغيير ذهنية الكسب السريع والربح الطائل، من هنا يجب التركيز على تفعيل دور التعاونيات الزراعية ودعمها، من خلال تحسين الإنتاج وتأمين خطة عمل تسويقية، وهذا طبعا يفتح المجال لفرص العمل لمكونات العائلات اللبنانية من رجال ونساء وشباب وشابات، وبالتالي يتعزز إرتباطهم بالأرض تدريجيا وتتعزز الحياة المعيشية في الريف، وعند تأمين وسائل النقل بشكل سليم تزول مشكلة الإنتقال من السكن إلى العمل خاصة في بلد صغير كلبنان.

إلا أنه لا يمكن تحقيق هكذا خطط إذا كانت العقلية السائدة في تركيبة النظام اللبناني تتمحور حول تقاسم الحصص وإضعاف مؤسسات الدولة والبحث عن الأنانية الفردية والتفرد بالقرارات، كذلك الإستمرار بنظرية المؤامرة لكي لا يتم التغيير الجذري لبنية هذا النظام. إن الأزمة الإقتصادية التي تشهدها البلاد في الفترة الحالية هي الأخطر منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 وتشكل ضرراً مباشراً على جميع المواطنين أكثر بكثير من نتائج الحروب المدمرة، فالسلاح يدمر بعض الأماكن ولكن هذه الأزمة تدمر عائلات بكاملها، فليرتقي من يتحكم بمسار الأمور في البلد إلى المستوى المطلوب من حس المسؤولية كي لا يجرف هذا الإنهيار ما تبقى من البلاد.

*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية