Advertise here

برهة الاستقلال الرائعة

23 كانون الأول 2019 22:36:59

حاول الأمير فخرالدين المعني الأول الاستقلال بلبنان، فخذله اللبنانيون أنفسهم، وأضاعوا البرهة الرائعة.

وجاء بعده الأمير فخرالدين المعني الثاني، ونهض بالإمارة اللبنانية حتى وصلت حدودها إلى بادية تدمر في سوريا، ومدينة الزرقاء ومدينة جرش في الأردن، فخذله اللبنانيون، وتآمروا عليه مع الباب العالي في الآستانة، وأضاعوا البرهة الرائعة.

وجاء الأمير بشير الشهابي، ونادى بالاستقلال، ومدّ يده لمصر المحروسة بقيادة محمد علي وابنه إبراهيم باشا، فتآمر عليه اللبنانيون، وخذلوه مع الدولة العثمانية العلية، فمات في المنفى، وخسر لبنان البرهة الرائعة.

وأمعن اللبنانيون في التواطؤ مع الدول الأجنبية، واستدعوا قناصلها للتدخل في شؤونهم الدينية، والطائفية، والمناطقية، والحزبية، فكان "نظام القائمقاميتين"، وخسر لبنان فرصته الرائعة.

 ثم كان العام  1860، واشتعلت الجبهات، وأُحرقت القرى والمدن والحقول والبساتين والكروم، ناهيك عن المزارع ودور الفلاحين، وبيوت وقصور الأغنياء، والبسطاء والميسورين، فكان "عهد المتصرفية"، وأضاع لبنان فرصته الرائعة.

 وجاء عهد الاحتلال والانتداب. وكانت اتفاقية "سايكس- بيكو" المشؤومة، ومعها "وعد بلفور" اللعين. ووقف الجنرال غورو يعلن دولة لبنان الكبير. فشرّق اللبنانيون وغرّبوا، وتآمروا على بعضهم. وخسر لبنان برهة الاستقلال الرائعة.

 ثم كان عهد الجلاء الفرنسي عن لبنان، وأُعلن الاستقلال بعد ثورة طرابلس، وجبل عامل، ومعتقلات راشيا وبشامون في العام1943 ، فأجهض اللبنانيون استقلالهم، وخسر لبنان فرصته الرائعة.

وجاء فتى العروبة الأغر، على جوادٍ أبيض. وتلبدت الغيوم المحلية والإقليمية، في لبنان والجوار. ودخل اللبنانيون في تجاذبات الأحلاف العربية والأجنبية، ولم ينتبهوا لإدارة بلدهم، ولم يحسنوا النظر في شؤونه الداخلية والخارجية، فانقلبوا على بعضهم، واستعانوا بأسلحة الدول المادية والمعنوية، فوقعوا في المحظور، وشهدوا عام الثورة، "ثورة 1958" ، وناموا على نيرانها، ولم يستيقظوا إلا بعد أكلتهم النيران بألسنتها، لستة أشهر وأكثر، وخسر لبنان فرصته الرائعة.

   واتفق اللبنانيون على العهد الشهابي. فنهض بالبلد، مؤسّسات، ومستشفيات، ومحافظات، وقائمقاميات، وجسوراً، وملاعب، وحدائق، وجامعات، وثانويات، ومدارس. وحين استيقظوا، وجدوا أنفسهم غرقى المنظمات والمكاتب.

 سال عليهم الحبر الأسود، والخبر الأسود، والموت الأسود، والرصاص الأسود. ف "بكوا على أندلس، إن حوصرت حلب"، كما يقول الشاعر عمر أبو ريشة. فخسر لبنان العهد الشهابي وبرهته الرائعة.

 وجاءت نذر العدو الإسرائيلي، بعد النكسة. وعصفت بلبنان العاصفة، ودخل اللبنانيون تجربة الدفاع عن استباحة الحدود. وتشرذموا وتفرقوا، ولم يحسنوا الحفاظ على الدولة. "فشرَوا وباعوا". وشرّعوا أبوابهم للحرب والحراب، حتى داست إسرائيل تراب الأرز المقدس، ودنّست بجنازير آلتها العسكرية العتبات والمقدسات، ومزقت روابط العائلات. وضيع اللبنانيون العهود وشرعوا الحدود، للغاصب المحتل. ولم يحسنوا، إلا نثر الأرزّ عليه، فضاعت فرصة الاستقلال الرائعة.

 وبعد خمسة عشر عاماً على انطلاقة الحرب الأهلية في 13 نيسان العام 1975، كان مؤتمر الطائف. وكان دستور الطائف. وكان الوفاق الوطني. وكان الإجماع الرائع، على النهوض بالبلد. وأخذت ورشة الإعمار والبنيان تعلو في سماء لبنان، حتى نسينا ذكريات الحرب الأهلية، وذكريات الحرب الإسرائيلية. ولكن من شبّ على خلقٍ شاب عليه. فانقلب اللبنانيون على بعضهم، وضاعت فرصة الاستقلال وبرهته الرائعة.

 لم يحسنوا الإفادة من الطائف، ولا الإفادة من دستوره، إلّا ما يناسب طوائفهم، ومذاهبهم، وعواطفهم، وأحزابهم، وجيوبهم، وخزائنهم، وأحلافهم الداخلية والخارجية، العربية والغربية والإقليمية، على حدٍ سواء. أضاعوا برهة الوطن، فبكوا عليه بكاءً مراً في الرابع عشر من شباط العام 2005. وأضاعوا برهته الرائعة. وانقسم اللبنانيون في ساحتين: 8 آذار و 14آذار، على خروج الخارجين وعلى دخول الداخلين، ولم يحسنوا إدارة البيت الداخلي، بما ينهض به أرضاً وسقفاً لوطن جريحٍ مكلوم. فخسروا البرهة الرائعة.

 وتوالت السنون الحزينة: سنوات المحنة عليهم، في رياض الصلح، مقابل ساحة الشهداء. وفي المحكمة الدولية، مقابل رهن الرئاسات والمجالس. والتوافق على إبطال المواد الدستورية، وتعليق العمل بها، كرمى لعيون "بليق".

وها هو لبنان يشهد اليوم حرباً من نوع آخر. بعد حرب تموز، ونصر حرب تموز العزيزة. وبعد حرب السابع من أيار المهينة، وبعد مؤتمر الدوحة لتعديل مؤتمر الطائف، وبعد إلغاء حرب الإلغاء، والعودة من السجون والمنافي، والذهاب إلى المدافن، والبكاء على الشهداء.

 ويشهد اللبنانيون اليوم على الحرب الناعمة: حرب الليرة والدولار، وبينهما استقلال ثورة 17 تشرين الثاني الوردية، في خواتيم العام2019. فالرهان شديد. وأيدي اللبنانيين على قلوبهم، لا في جيوبهم. فهل يخسروا مجدداً برهة الاستقلال الرائعة!


(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية