Advertise here

عن فتَاتِنا ومفاتنها... وفتنتِها

18 كانون الأول 2019 17:43:00 - آخر تحديث: 18 كانون الأول 2019 17:45:17


عرفت اللغة العربيّة قواعدها المتينة عبر عصور، وتفنّن فقهاء اللغة في جمع قواعدها، وتوضيح استثناءاتها، وتعليم إعرابها. عاشت هكذا قرونًا طويلة، عرف في خلالها الفنانون والأدباء كيف يحافظون على شرفها، ويتغنون بها ومعها. إذ نشأت "عربيّة" على جملة من القواعد المنطقيّة منها الوزن، والجذر، والإعراب. كذلك، عُدَّت عربيّة لغةً مقدّسة، لغة أهل الجنّة عند ناطقيها من المسلمين، ومفخرة الإسلام في إعجازها القرآنيّ. هكذا كانت عربيّة مصونة من كلّ خطر، في باديتها النقيّة، حيث كان العرب يرسلون إليها أولادهم، كي يحافظوا على لغتهم، وعلى هوّيتهم. 

إلّا أنّ مع توسّع اللغة وانتشارها مع المدّ الإسلاميّ، عرفت تلك الصبيّة الفاتنة علاقات جيرة، فاختلطت معهم وبادلتهم بعض القُبَل، فتركت على ثغرها آثارًا فارسيّة، وسريانيّة، وأعجميّة. لكنّها عرفت كيف تستر تلك العلامات أمام أهلها، وهُم بدورهم غضّوا الطرف عن تلك السلوكيّات كي لا ينكشف عارهم، ويحافظوا على عذريّة لغتهم. شرفٌ متخايل، فعربيّة كما خليلاتها لم تولد إلّا من جملة تلاحُمات وتفاعلات سبقتها ولحقتها. 

عندما كبرت فتاتنا ونضجت، عرف جسدها تغييراتٍ ملحوظة، فعلومها كبرت، ومعاجمها تضخّمت، واكتشافاتها توسّعت... فأدركت أنّ ما كان عندها لا يكفيها ولا يُكمِّلها. وبجرأة المرأة الناضجة، عانقت الكثير، وأنجبت الوفير، واهتمّت بالغفير. حينها، أصبحت نموذجًا ومنارة، حتّى إنّها لم تكتفِ في العيش في حيّها الّتي اعتادت عليه، بل أخذت تزور أحياء أُخرى، وذاع صيتها العذب من الشرق إلى الغرب. 

في سنّ "اليأس"، كانت عربيّة واقعيّة في تعاملها مع معطيات الساعة. فعرفت كيف توازن بين مقدراتها وعجزها، وصبّت اهتمامها على أولادها لأنّها عرفت أنّهم وحدهم من يعكسون خصوبتها للآخرين، هكذا أصبح ديوان، وكتاب، ومجلّة، وجريدة أعزّ كنوزها، كيف لا وهم جعلوا من أمّهم نبض قلوبهم وأنفاسِهم. 

لم تسلم عربيّة من دراما الشيخوخة، فصُدمت مرّتين، الأولى عندما اختفت مفاتنها، والثانية عندما هجرها أولادها. فمن اعتبرتهم سندها مدى الدهور، أخذوا يهتمّون بدورهم بأولادهم، موقع، ومنشور، ومدوّنة، وتغريدة. هم جيلٌ انفتح على العولمة وحاكى جيرانه وانصهر في ثقافتهم وتماهى معهم. لم يكترث أبناؤها بروادع أجدادهم، فرأوا فيها تحجّرًا لا بل تخشّبًا. هم جيلٌ يؤمن بالبراغماتيّة، وانتماؤهم لا لحيِّهم بل لعالم واحدٍ تمتزج فيه الفِكَر والمعلومات من دون أيّ ضوابط. 

تساقطت حُلي عربيّة واحدة تلو الأُخرى، شدّاتها صعُب وضعها، حركاتها ثقُل وزنُها، فساتينها بهُت لونها. لكنّها عندما لملمت نفسها أمام مرآتها المتشظّيّة، عادت إلى حبّها الأوّل... الحرف، وتركت رسالة إلى بنيها خطّتها بحبر حكمتها، وعبق حضارتها، جاء فيها...

"يا أولادي، على الحداثة والأصالة أن تنسجما، لا لتُكوّنا إعصارًا يضرب من دون هوادة، بل لتؤلِّفا نسيمًا سلسًا تكون فيه اللغة عذبة متناغمة جاذبة آسرة. يمكننا الاعتماد على المنطق الّذي كوِّنتُ بواسطته، لأنّني جُبلت من تناغم الحركة والقواعد والموسيقى، ولكلٍّ مكانته في التواصل والفكر. كذلك، لا تهابوا منطق الحداثة، فاستفيدوا من التطوّر التقنيّ وأرجِعوا إليّ نضارتي... أنا على صورتكم عشقت الانتشار والتواصل، وأتأمّل في سهولة انتشارهما وسرعته في أيّامكم... لكن، لا تنسوا الحليب الّذي رضعتموه، إذ بواسطته نموتم وكبرتم..."

فجأة، وما إن صاغت عربيّة آخر حروف رسالتها...  عاد إليها رونقها، لا بل عادت إليها ثقتها بنفسها، فهي ما زالت قادرة على استغواء أهل العلم والمعرفة، ولن تخجل عربيّة بعد اليوم في أن تكشف مفاتنها مجدّدًا، فهي من أغوت الشعراء والأدباء والفنانين على مرّ العصور وباحت لهم بأسرارها، وها هي اليوم تستغوي من جديد "الغُرب" قبل العُرب، برزانة "الليدي" ووقارها.