Advertise here

الذكرى الثامنة لـ "الربيع العربي": سيدي الشهيد "البوعزيزي"... يعيّشك..

15 كانون الثاني 2019 13:31:50

قبل ثمان سنوات إستشهد الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" محترقاً بنار أشعلها في ثيابه البالية، إحتجاجاً على تنظيم شرطية بلدية محضر ضبط بحقه جراء تخلفه عن موعد تجديد رخصة عربته المخلعة التي يضع عليها بعض ثمار المواسم، ويدور بها في الأحياء الشعبية.

ذلك النهار لم يدرك الشاب البائس أنه أشعل عود ثقاب ورماه في كومة قش شعبية في ساحة عامة مكتظة بحشود الفقر والبطالة.

حدث ذلك في اليوم السابع عشر من كانون الأول 2010.

وفي الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني 2011 أسلم البائس (البوعزيزي) الروح في المستشفى فانتفضت جماهير الفقر والبطالة في شوراع المدن التونسية، ثم عمت الثورة سائر المناطق، وإرتفعت صور الرئيس التونسي (زين العابدين بن علي) بالمقلوب، وفي اليوم التالي أعلن إستقالته وغادر البلاد.

هكذا، بشهيد واحد، وبضعة جرحى في ثورة شعبية سلمية، دامت يوماً وليلة، سقط الرئيس التونسي، وهرب، ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى وصلت شعلة الثورة إلى سورية حيث إندلعت من مدينة "درعا" في الجنوب، وفي الوقت عينه إنضمت ليبيا ومصر، فسقط معمر القذافي قتيلاً فاراً من قلعته المحصنة، وذهب حسني مبارك أسيراً إلى السجن، وتابع اليمن إنتفاضاته المتعددة، فيما العراق يطوي المراحل والسنوات على مسافة من حدوده مع سورية بصفته ممراً أو معبراً، إلى الجبهات القريبة المشتعلة بكل أنواع وعيارات أسلحة الجيوش الأوروبية، والأميركية، والروسية، فيما المرصد الإسرائيلي الجوي والبري والبحري يراقب، ويتدخل، ويشارك من دون إعلان، أو اعتراف، إلا عند الضرورة التي تقتضيها الخطة الإستراتيجية.

وحده النظام السوري (المشارك والصامد) في هذه الحرب (الكونية) ما يزال يتصرف على أنه يمر في (مرحلة إستثنائية) لكنها لا تدعو إلى القلق!!

وهذا دليله على أنه يؤدي دور بما يلائم ويرضي ويخدم مصالح وإستراتيجيات الدول التي تتقاسم بالتراضي أرضه، وأجواءه، وحدوده البرية والبحرية.

بعد تلك السنوات الثماني التي مضت على الحرب المستمرة في سورية، مع بقاء النظام على ركام الدمار، والدم، والنزوح، والتشرد، والموت، والعذاب، والذل، وكأن كل ما جرى مجرد "حقبة صعبة" من تاريخ سورية، تجري حالياً مشاورات، وترسم خطط وإستراتيجية لإنهاء هذه الحرب على قاعدة "ما مضى قد مضى، مع العفو عما مضى"!

لكن الذاكرة الصحافية تعود ببعض الاحداث إلى بداياتها، كما في حال تونس التي إستقرت جمهوريتها حالياً برئاسة القائد السبسي، لكن من دون إحراز الحد الأدنى من طموحات "ثورة البوعزيزي" قبل ثمان سنوات. فالجمهورية التونسية لم تعرف إنقلابات عسكرية على غرار معظم "جمهوريات" العالم العربي. وقد جاء رئيسها المدني الأول المجاهد الحبيب بورقيبة على أنقاض الانتداب الفرنسي الطويل في 25 تموز من العام 1957، وإستمر حتى العام 1987.

ولقد حالفني الحظ في زيارة صحافية إلى تونس في منتصف العام 1987، فتيسر لي أن احظى بمعلومات سرية مهمة عن خطة "إنقلاب" على "المجاهد الأكبر بورقيبة".

والتفاصيل لا تخلو من التشويق، فقد نزلت في فندق "أفريكا" على ناصية جادة الرئيس (الحبيب بورقيبة) في قلب العاصمة. وإذ جلست في ركن داخل ردهة الفندق ذلك الصباح كانت على مقربة مني سيدة صحافية تضع آلة تسجيل على الطاولة أمامها، وهي تصغي وتسال رجلاً قبالتها فيجيب عن الأسئلة بصوت عالٍ نسبياً، كان الحديث يجري بالفرنسية، والموضوع يدور على شؤون ثقافية ومدنية.

ومن خلال أجوبة الرجل ولهجته الشعبية التونسية أدركت أنه ليس فرنسياً.

وإذ إنتهت المقابلة وغادرت الصحافية ردهة الفندق بقي الرجل وحيداً، فاشعل سيجارة ونادى النادل، طالباً فنجان قهوة، وتأكدت أنه تونسي.

وبغتة، ومن دون إستعداد مسبق، ألقيت عليه التحية، فرد عليّ بلهجة ملؤها الأنس، وأردف قائلاً: "يعيشك.."!.. وهي عبارة يختم بها التوانسة كلامهم بالقول "يعيشك" كما نفعل نحن في المشرق، فنقول مثلاً "تسلم"...

ثم عاد وقال، على سبيل التأكد: السيد عْربي.. أليس كذلك؟ فأحنيت رأسي مؤكداً، فبادرني سائلاً: هل تسمح بأن نتعارف؟.. وأعربت عن سروري، فقام وصافحني، ثم جلس، فافصحت له أني صحافي لبناني، وأنني أكتب لجريدة "الخليج"، وان زيارتي لتونس هي لحساب "الخليج"..

وفوجئت به يقف ويعانقني، ويفصح لي أنه يعرفني من خلال ما كنت أكتب في جريدة "الأنوار" ثم في "السفير" ومجلة "الحوادث" وصولاً إلى جريدة "الخليج" في دولة الإمارات العربية المتحدة. وما أن توقف حتى أفصح لي عن اسمه، فاذا هو أستاذ الفلسفة، والعلوم السياسية، في جامعة تونس.

ثم، وكأنه إتخذ قراراً سريعاً قال لي:

سامحني.. لا استطيع أن أطيل جلستي معك.. لكني آمل أن تقبل دعوتي إلى العشاء معاً هذه الليلة في مكان آخر، سوف أنتظرك على هذا العنوان..

ثم كتب لي على ورقة إسم المطعم، والعنوان: "باب حلق الواد" في حي تونسي عريق في تاريخ المدينة.

وفي الموعد المحدد إلتقينا في ذلك المطعم، ولاحظت أنه اختار حجز طاولة في ركن غير مكشوف أمام الشارع..

وعلى مدى ساعة وأكثر حدثني الأستاذ الدكتور الصديق، الذي منحني ثقته بي، عن تونس، وعن جامعتها، وعن الأنشطة السياسية، والمدنية، والدينية في أروقتها على اختلاف إختصاصاتها وأساتذتها، وطلابها، وكانت الإيجابيات تفوق السلبيات بمعدل عالٍ.

كنت أصغي باهتمام، ولم أحاول أن أطرح اي سؤال على سبيل الحصول على أسرار في أي موضوع.. وهذا ما جعل صديقي مطمئناً، وكريماً في عرض الأوضاع والأزمات التي تعاني منها معظم الدول العربية، خصوصاً الشمال الافريقي العربي.

كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل، وصديقي الدكتور الأستاذ يعرض لي أوضاع تونس السياسية والمدنية، والثقافية، والدينية..

وفجأة، توقف ليقول لي بعد تردد ملحوظ:

- لن نخرج من هنا دون أن أكشف لك سراً كبيراً، وعليك أنت أن تتصرف به كصحافي سياسي.

ثم خفض صوته إلى أقصى حد ممكن، وهو يقول لي، وقد ظهرت على وجهه علامات الحذر:

- "سوف يكون لتونس رئيس جديد يأتي من داخل السلطة، ولكن ليس من السلك العسكري".

...ثم أوضح: ليس من الجيش.. إنما من سلك عسكري.

ومن دون تمهيد لما سيقول خفض صديقي الدكتور الأستاذ الجامعي صوته إلى أقصى حد:

سوف أغادر الآن وأدعك في أمان الله، وأرجو أن تتأخر قليلاً قبل أن تغادر هذا المطعم.

وإذ وقفنا للوداع قال لي:

أرجوك أن تنسى إسمي. وآمل أن نلتقي مرة أخرى في الفندق الذي أنت فيه، أو في باريس..

وغادر صديقي الأستاذ الدكتور، تاركاً لي قرار التصرف بما أفضى لي من معلومات..

وإذ غادرت تونس إلى باريس كنت قد أفرغت ذاكرتي من مجمل ما سمعته من الصديق الأستاذ الكبير، وكان العنوان في الصفحة الأولى في جريدة "الخليج" بالحرف المكبر (على ما أتذكر):

(رئيس تونس الجديد من سلك الأمن)

وفي ذلك الزمن كان رئيس الحكومة التونسية اللواء السابق في سلك الدرك زين العابدين بن علي.

وصدرت "الخليج" بذلك العنوان، وكنت قد وصلت إلى أبوظبي، فعلمت أن السفير التونسي في دولة الإمارات العربية المتحدة قد إتصل بعميد "دار الخليج" المغفور له الأستاذ تريم عمران، وشقيقه الدكتور عبد الله عمران، طالباً تكذيب الخبر بكل تفاصيله، مع الاعتذار..

لكن، في وقت التمهل بالرد على السفير التونسي حصل الحدث الكبير في العاصمة التونسية.

رئيس الحكومة التونسية الجنرال زين العابدين بن علي يتسلم مقاليد الرئاسة الجمهورية، والرئيس الحبيب بورقيبة قيد الإقامة الجبرية في دار الرئاسة.

هذا العنوان إحتل الصفحة الأولى من جريدة "الخليج". وكان على الإتصال بسفير تونس في أبوظبي لأقول له: أمازلت تطالب بنفي الخبر مع الاعتذار؟

لكن السفير لم يرد على الإتصال.. فهو كان قد غادر أبوظبي إلى تونس..

وكانت التهنئة لجريدة "الخليج".

وفي ذكراه الثامنة نقول لشهيد شعب تونس النبيل، الفقير، طاهر محمد البوعزيزي: يعيّشك...