في الذكرى الـ 14 لرحيل الصحافي والنائب جبران تويني، أردت تسجيل شهادتي للتاريخ وأروي تفاصيل تتصل بعلاقتي به ومعرفتي التي توطّدت معه على مدى سنوات، ولم تسمح الظروف بكشفها أو الحديث عن تفاصيلها فيما سبق من الأيام.
السبب الوحيد الذي دفعني للعودة إلى جبران، الذي نستذكره عند كل منعطف نشعر فيه أن الحريات السياسية والإعلامية في خطر، هو عودة قسمه ليتردد في الساحات والشوارع مع إنتفاضة الشعب اللبناني المطالبة بالتغيير وبإلغاء الحواجز السياسية والنفسية التي ولدها النظام الطائفي والمذهبي الذي عملت قوى سياسية على تغذيته وتعميق جذوره لتحقيق مكاسب فئوية ومصلحية ضيقة.
وفي كل مرة تتعرّض فيها الحريات الإعلامية لخطر داهم، وكان آخرها مع حصل مع صحيفة "نداء الوطن"، نستذكر تلك الوقفة الصامتة التي دعا إليها جبران تويني في ساحة الشهداء وحملنا فيها عالياً أقلام "النهار" بعد استشهاد الصحافي سمير قصير للقول أن الحرية لا تموت وأن الشهداء الذين يسقطون في سبيلها، إنما يعبدون الطريق نحو الحرية والسيادة والإستقلال، وهي العناوين التي دفع قصير وتويني حياتهما ثمناً لها سنة 2005.
معرفتي بجبران تويني تعود إلى سنة 1993، وكنت لا أزال طالباً للعلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. في تلك السنة، أطلق جبران ملحق الشباب الشهير من "النهار" تحت إسم "نهار الشباب" الذي أفسح المجال أمام الشباب والطلاب من مختلف المناطق والجامعات لأن يعبّروا عما يجول في خواطرهم في السياسة والتربية والإقتصاد والبيئة.
كانت مشاكل لبنان كثيرة بعد إنتهاء الحرب الأهلية سنة 1990، وكانت السيطرة السياسية السورية تامة على كل مفاصل الحياة الوطنية والدستورية اللبنانية، فضلاً عن الهم المعيشي والإقتصادي والإجتماعي الذي كان يقلق الشباب بفعل التراجع الإقتصادي وعدم وضوح رؤية النهوض الإقتصادي التي أطلقها آنذاك الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما دار حولها من إلتباسات وعلامات إستفهام.
طبعاً، لم تتوفر آنذاك وسائل التواصل الاجتماعي، ولا الإنترنت، وكان الهاتف الخليوي يشق طريقه في أيامه الأولى بأكلاف باهظة (ولا تزال من الأعلى حول العالم بالمناسبة)، بما يفوق قدرة الشباب والطلاب على الإحتمال.
جاء مشروع "نهار الشباب" ليكون بمثابة الحلم للكثير من الشباب؛ صحيفة مرموقة لها تاريخها الإعلامي في لبنان ومحطات مضيئة في الدفاع عن الحريات وحمل هموم الناس يقودها رئيس تحرير شاب متحمس ومندفع لقضايا الوطن له رؤيته الثاقبة في الأحداث وقلمه اللاذع في مقاربة ما كان يصنّف في خانة "المحظورات" خصوصاً ما يتعلق بالوصاية السورية. لا بد أن يكون ذلك فرصة نادرة وإستثنائية لشباب يختزن الكثير من الطموحات السياسية التي يريد التعبير عنها.
وسرعان ما حقق الملحق إنتشاراً واسعاً ونجاحاً باهراً، فكان عدد المندوبين يتضاعف إسبوعياً، فإذ بهم شبكة من "المراسلين" للجريدة في المناطق والجامعات والمعاهد والمدارس، وفتح المجال أمامهم بالكامل: مقالات، تحقيقات، مقابلات وكل أشكال الكتابة الصحافية، تشرف عليها هيئة تحرير ضمت على ما أذكر: الدكتور جان كرم والزملاء علي حمادة وألين فرح ووليد عبود ورلى معوض وسواهم من صحافيي "النهار" الأم.
وهكذا باشرتُ الكتابة في "نهار الشباب" عبر تسليط الضوء على ملفات هامة بعضها تصدر غلاف الملحق، وكنت ألتقي جبران تويني في مكاتب "النهار" في الأشرفية في محلة الحكمة حيث كان يتابع أدق التفاصيل وتقدم العمل. ولا زلت أذكر تلك الشهادة التقديرية الموقعة من غسان وجبران تويني مع رزمة كتب عن الصحافة من إصدار دار النهار للنشر التي نفقتدها بعد إقفالها القسري.
وأذكر ذاك اليوم الشهير الذي نظمه بالتعاون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وسماه "نائب ليوم واحد"، فإمتلأت قاعة الهيئة العامة للمجلس النيابي بـ 128 طالباً (نواب)، وفتح النقاش مع الرئيس بري طوال ثلاث ساعات وقد أمطره الشباب بالأسئلة الدقيقة والمحرجة، التي عرف بطبيعة الحال كيف يتعاطى معها بـ"تدوير الزوايا" التي أتقنها ويتقنها حتى يومنا هذا.
في الإجتماع التحضيري لذلك اليوم، إغرورقت عينا جبران بالدموع عندما قالت إحدى الطالبات أن والدها مخطوف في سوريا والدولة لا تحرك ساكناً، فتعهد متابعة الأمر مع السلطات، وللأسف لا يزال ملف المفقودين في سوريا تلفه الضبابية حتى يومنا هذا.
وبعد مرور كل هذه السنوات، رغم الإعلان المتكرر لبعض القوى السياسية اللبنانية، من دمشق، أنه في عهدتها وأنها تتكفل بإيجاد الحل له وتوفير المعلومات المطلوبة، فإذ بالكلام يكون مجرد كلام للإستهلاك الشعبوي دون أن يحقق تقدماً ولو خطوة واحدة إلى الأمام. كان الله في "عون" أمهات وأهالي المفقودين!
وتوالت اللقاءات والإجتماعات وتوطّدت العلاقة مع جبران تويني الصحافي الأنيق الذي قاد إنتقال "النهار" نحو حقبة جديدة (في المبنى والمعنى) ووضع الأسس للتحول نحو الإصدار الإلكتروني الذي رأى سلفاً أنه من أبرز أدوات العصر والمستقبل.
يد الحقد والغدر إمتدت لتطال جبران ليلتحق برفيقه سمير قصير وقافلة من الشهداء الأبرار، وتتابع نايلة وميشيل مسيرته، وتحملان قلمه لمواصلة النضال... لكن الأحرار لا يموتون!