Advertise here

بين العباءة والطربوش نفتقد الهامات والرؤوس

10 كانون الأول 2019 08:59:41

انتفاضةٌ في الشوارع والساحات تختلف الآراء على تسميتها. البعض يُطلق عليها اسم الثورة، والآخر يسمّيها حراكاً. وبعضهم الآخر يقيّمها بأعداد المشاركين فيها نسبةً إلى عدد الشعب اللبناني غير المعروف تحديداً، معتبراً أن المشاركين أقلّ بكثير من المعتكفين في بيوتهم وهم، أي المعتكفين المؤيدين له ولتيّاره ولعهده. وتنشط التحليلات والاستنتاجات والاتهامات، وكلٌ يراها من خلال مصالحه وأهوائه فيجرّمها ويخونها حيناً، ويعتبرها مساعدةً له في عملية الإصلاح والتغيير أحياناً، منزّهاً نفسه عن أسبابها، متناسياً الصور المقزّزة للجوع والحرمان والفقر المدقع في حي التنك، طرابلس، وفي عكار والضنّية وصيدا والبقاع، وفي كل لبنان، مقابل الثراء الفاحش المستجد على الكثير من الأزلام والمحاسيب المتعاونين، كلٌ بحسب قُربه نسباً، أم فعلاً، من النظام وحلفائه.

والانتفاضة، أم الثورة، أو الحراك، ولا خلاف على التسمية، ما زالت تتجّمع في الساحات، وأمام مراكز الدولة العامة، وأحياناً تقطع الطرقات، وتُقفل المتاجر، والمصارف، والمدارس والجامعات، وتنظّم السلاسل البشرية والبوسطات والقافلات، وترفع نُصُب وشعارات الثورة في العديد من المناطق. 

نعم استطاعت الثورة أن تكون عابرةً للمناطق والطوائف إلى حدٍ ما، باعتبار أن بعض المربعات في بعض المناطق مصفّحةً لا تخترقها إلّا الأفكار المفلترة التي لا تمسّ قداسة الأشخاص، ولا شعارات التحريم، ولا مُثُل التعجيم، مع أن المعاناة واحدة، والفقر واحد، والجوع واحد. لكن الحلم لهذا الوطن ليس واحداً.

نعم استطاعت الثورة، وهراوات الشارع المقابل الذي سُيّر بوجهها، أن تُسقط الحكومة، وتُسقط التسوية التي حوّلت الدولة إلى شركة مساهمة راح الشركاء فيها يتقاسمونها دون حسيب أو رقيب، إلّا الأصوات التي كانت ترفض على الدوام هذا الواقع الذي فرضه نظام المحاصصة، وكانت دوماً تحذّر من خطورة الاستمرار في هذا النهج، لكن دون جدوى.

طرحت الثورة البدائل عن الحكومة المستقيلة، لكن البدائل بقيت ضمن الشعارات التى نحلم بتحقيقها دون إمكانية جعلها واقعاً 

في ظلّ التركيبة السياسية والطائفية المتجذّرة في السلطة منذ لبنان 1943.وفي ظلّ الواقع الدولي والإقليمي الذي  ينظّم الخلافات، ويحكم لعبة التوازنات في البلد، وهو خطٌ أحمر لا يمكن تجاوزه على الأقل في المنظور القريب.

آن الآوان للثورة محاورة الأحزاب الوطنية التي تحمل في مبادئها العلمانية ذات الشعارات المطلبية، والسياسية التي تنادي بها، وهي التي لم يتسنَ لها القيام بالدور الفاعل لإجراء التغيير، إما بسبب أنها تشكّل أقلية سياسية في ظل النظام الطائفي السائد، والذي أجبرها على التقوقع ضمن طوائفها في عهد الوصاية، وإما خوفاً من تهميشها وتهديدها بإلغائها سياسياً، والانقضاض عليها بعد تخوين قاداتها، أي كما حصل لحزب القوات اللبنانية سابقاً، وما كاد أن يحصل للحزب التقدمي الاشتراكي على إثر حادثة البساتين المركّبة والمفتعلة، وذلك بسبب معارضة الحزب لسياسة العهد وحلفائه التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.

إن الخطاب الذي وجّهته الثورة تجاه الأحزاب الوطنية، وقواعدها الحزبية، عبر المحطات الإعلامية المتلفزة لم يكن موفقاً، بل جاء متناقضاً مع شعار الوحدة الوطنية الذي أطلقته الثورة، باعتبار أن المنتسبين للأحزاب الوطنية يشكّلون جزءاً من النسيج الوطني اللبناني، ولا يمكن مخاطبتهم بهذه الصورة، او اعتبارهم أعداءَ الثورة، أو دعوتهم إلى تمزيق بطاقاتهم الحزبية، لكي يُقبلوا ضمن صفوفها، خصوصاً وأن محازبي الأحزاب العلمانية والتقدمية قد مارسوا من خلال انتمائهم للأحزاب النضال المطلبي والسياسي بقصد تغيير النظام وإنشاء دولة مدنية تسودها قوانين العدالة الاجتماعية منذ خمسينيات القرن الماضي.

أما اليوم، وقد وصلت الثورة إلى ذروة الحالة المتأزمة نتيجة اصطدامها بواقع التوازنات المحلية والإقليمية، فلا بدّ لها من مراجعة حساباتها بدقة، ووضع خطة تحرّك جديدة تضمن معها الاستمرارية لما بدأت به، وما وصلت إليه من إنجازات عبر إنتاج نخب ثورية تستطيع التحاور مع جميع الأحزاب الوطنية، وتشجيعها للانضمام، هي وقواعدها وقيادتها، إليها تحت راية العلم اللبناني دون سواه، لتشكيل معارضةٍ حقيقية تكون أهمّ أولوياتها العودة إلى المؤسّسات والدستور في التكليف والتأليف لحكومة اخصائيين مهمّتها إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد، والدعوة إلى انتخاباتٍ نيابية مبكّرة بعد تكليف لجنة مستقلة متخصّصة لوضع قانون انتخابي يحاكي طموحات المواطنين خارج القيد الطائفي.

إن المؤسّسات الوطنية والدستورية هي الضمانة لاستمرارية قيام الدولة اللبنانية، والتي بانهيارها سوف تتحقق غاية القوى الظلامية المتربّصة بها للانقضاض عليها، ومن ثمّ تحويلها إلى أدواتٍ لا تخدم إلّا مصالحها الإقليمية، مما يتطلب من الثورة، ومن جميع الأحزاب الوطنية الالتفاف حولها، وهذا الأمر يتم عبر رفض الطرابيش الجاهزة، والعباءات الفارغة، التي تُجهّز لتكون في حكومة معلّبة مسبقاً تفتقد إلى الهامات الوطنية، والرؤوس المتخصّصة.