Advertise here

تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها

14 كانون الثاني 2019 22:57:19

كانت الخالصة حاضرة عامرة في سهل الحولة الفلسطيني، تقع في زاوية حادّة بين الجولان العربي السوري والحدود اللبنانية القريبة من مزارع شبعا، يقام فيها سوق أسبوعي يرتاده أهل الجوار من فلسطين والجولان وحاصبيا ومرجعيون. وكم كان يُحكى في الصغر عن الليمون اليافاوي كفاكهة طيبة يؤتى به منها إلى منطقتنا.

أمّا سهل الحولة ففيه عشرات المزارع في منبسطه وسفوحه يملكها الميسورون من أهالي حاصبيا ومرجعيون، ويقال إن الوالي العثماني قبض ثمنها نقداً لسد ديون الدولة العثمانية بعد هزيمتها في حرب البلقان في أوائل القرن الماضي.

سهلٌ غنيٌ بالمياه تأتيه من اللّدان وبانياس والوزاني والحاصباني وتتجمع في بحيرته الواسعة. ويقول د. مسعود ضاهر إنّ تلزيمه لشركة فرنسية من أجل تجفيفه كان سبباً سنة 1924 لتنازل الانتداب الفرنسي عن 17 قرية لبنانية وإلحاقها بفلسطين، فيما لا يوافق المؤرخ الشعبي سلام الراسي على هذا الرأي ويعزوه إلى سبب آخر.

هذه الخالصة المحتلة اليوم تحمل إسماً صهيونياً (كريات شمونة) كانت مسرحاً لعملية فدائية فلسطينية بالغة الجرأة في نيسان 1974 حيث تمكنت مجموعةٌ من ثلاثة أبطال عرب هم فلسطيني وعراقي وسوري من تنفيذها، فيما ألحق بالإسرائيليين خسائر فادحة في عقر مستوطناتهم، هؤلاء الأبطال غنّتهم السيدة فيروز برائعتها وحدن بيبقوا حيث تقول:
وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان      

وحدن بيقطفوا وراق الزمـــــــــــــان

 بيسكروا الغابة وبيضلــــــــــهن      

مثل الشتي يدقوا على بوابي يا زمان

هذه القصيدة الرائعة لشاعرنا اللبناني الكبير طلال حيدر التي لحنها الفنان زياد الرحباني.

لم يكن العدو الإسرائيلي بحاجة لمثل هذا الحدث ليعمم الدمار في شرقي الحاصباني وغربيه، فمنذ ستينيات القرن الماضي وهو يغرز قنابله في صدور الشرفاء الآمنين من أبناء الجنوب لتحريضهم ضد الفلسطينيين، ولم يفلح في ذلك. فعرب الحولة لخميون أقحاح، فيما بنوعاملة في جنوبهم وبنو تيم الله بن ثعلبة في واديهم وما يجمع بين الفريقين مدرسة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

كعاداته استباح العدو جوّنا وقرانا وعمم الدمار على بيوت الناس ومدارسهم في شويا وعين قنيا وحاصبيا وسوقها التجاري وثكنة الجيش اللبناني فيها وميمس، وعمد إلى اصطياد الناس على الطرقات في أرزاقهم وسياراتهم موقعاً الشهداء والجرحى. وممّا يُحكى تلك السنة أن القائد الرئيس أبوعمّار ياسر عرفات نجا بأعجوبة من اصطياده فوق الكفير، فلم يكن أمامه إلا المشيَ في كروم الزيتون تاركاً سيارة الإسعاف ناقلته إلى أن التقاه أحد أبنائها فتعرف إليه وأرشده إلى بر الأمان.
حينها أتى دور الكفير، فبعد تدمير مبنى رابطتها الثقافية قصف الطيران المعادي أحد منازلها، ما أوقع مجزرة ضد عائلة بريئة من آل نوفل الكرام.

أربك هذا القصف اليومي لمواقع الفدائيين في المغاور والكهوف رجالهم، ما دفعهم لتركها والانتشار بعيداً عنها والاحتماء في الأماكن المأهولة.

كان الخوف كبيراً عند الناس الذين يطلبون الأمان. وأخذت الأفكار الهوجاء تلعب في عقولهم، وصاروا يُبيتون نوايا الشر للأخوة المقاتلين، فيما عمد البعض إلى حمل الأولاد والعجزة إلى مناطق الجبل وخاصة العبادية والشويفات وإلى المريجات البقاعية.

حينها كان لا بد من مبادرة، فانتقلنا كحزب تقدّمي إشتراكي وفعاليات قروية لإعلام المعلّم كمال بيك بهواجسنا ومخاوفنا وما نحن فيه على الأرض في منطقة يحبها ويقدر أهلها والتزاماتها تجاه الحليف الفلسطيني.

محطتنا الأولى كانت مساءً في فرن الحطب فأصغى إلينا ملياً وأثنى على مبادرتنا وجبر خواطرنا ونقل إلينا بعض معاناته حول هذا الموضوع، ولكنه كان واضحاً بأنّه لم تكن حتى تاريخه علاقة له مع القائد أبوعمّار إلا عبر الرفاق والحلفاء والوسطاء وكان يُكنّ للمرحوم شفيق الحوت مودة واحتراماً ويومها كان مندوب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت ويقدّر له دوره في الحرص على تنفيذ اتفاق القاهرة.

إرتاحت أعصابنا في جلسة ملأى بالصدق والصراحة والمحبة، ولكنه طلب إلينا أن نزور سماحة الشيخ محمد أبوشقرا شيخ عقل الطائفة الموحدة، مشينا إلى منزل صاحب السماحة في الشارع القريب فاستقبلنا بطيبته ووقاره وبعبارات الترحيب والود، فتصارحنا في ما نحن فيه من أوهام ووساوس، فبادل تضحياتنا وهواجسنا بالتركيز على عروبتنا ووطنيتنا ووفائنا للقضية الأم ، ووعدنا بأنّه غداً سيبحث الأمر مع كمال بيك وسوف يناقشه مع الأستاذ شفيق الحوت علّه يصل إلى نتيجة مرضية بالابتعاد عن المنازل وبعث الطمأنينة في نفوس السكان. وكان اللقاء مريحاً شعرنا فيه بالأبوة الروحية والأمل بتخفيف القلق، حينها لم يستطع أحدنا أن يحبس غيضه، فعاد عن طيب نيةٍ مجاهراً بأن الطريق لاستعادة فلسطين لن تكون على حساب أولادنا وبيوتنا، فنحن لدينا وسائل نستعملها لنحمي أنفسنا.. لم ترق هذه الخاتمة لسماحته فخاطبنا بصوتٍ عالٍ:

تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها
الرحمة للمعلّم كمال بك ولسماحة الشيخ محمد ونحن على العهد باقون.