Advertise here

كمال جنبلاط فجرٌ بزغَ من ظُلمات هذا الشرق

05 كانون الأول 2019 11:17:47

أزهر اللوز في كانون معلناً تجدّد الحياة، مبشّراً الطبيعة بولادة البراعم، الآتية إلى عرس التكامل مع حركة الوجود، ليرقص في آذار رقصة الاتحاد في فرح التكوين، نافضاً عن جذوعه المترنّمة المطّهرة بماء الشتاء غبارَ الذين رحلوا، فتدّب فيه حرارة الحياة، وليُنشدُ نشيد الخير الآتي من الزّهر العاقد.

هي الطبيعة الحيّة في مراحل الصعود. أعلنت، وتعلن، إرادتها الصارمة بأنه لم يعد متّسعٌ للمجتمع الحلزون الحابس عليه، يشدّها في ضيقٍ عن اتّساعٍ وانكفاء عن النور.
وكان كلُّ ما حوله صحارى جدباء تحكمها أحكام القبيلة والعشيرة ينتظرون غيث السماء، ومقرات الّليل، يحدّد مسارهم شرقاً أم غرباً، يميناً أم شمالاً.

وُلـِـدَ كمـال جنبــلاط في ظل النسائم المشبّعة بعطر الطبيعة في قصرٍ تعبق فيه رائحة التاريخ في المختارة، محّجة الموحدين الدروز السياسية في جبل لبنان، متأملاً، متفكراً، باحثاً في المتغيّرات التي كانت متسارعةً في عصره.

قرأ كمال جنبلاط التطورات التي رافقت تكوين خريطةٍ جديدة للعالم العربي في ظل وجود كيانٍ صهيونيٍ غاصب على أرض فلسطين. وكانت رياح التغيير تعصف في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكّلت القوّتان الجبّارتان في ذلك الوقت، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، والاتحاد السوفياتي. فعلمَ وعن يقين أنّ المبادئ التي حلمَ بها لإنسانٍ أكثر إنسانية، ولعالمٍ أكثر ديمقراطية، لا بدّ من ترجمتها في إطارٍ تنظميٍ سياسي يستطيع من خلاله قيادة حركة التغيير، فكان الحزب التقدمي الاشتراكي.

خلعَ كمال جنبلاط عباءة العائلة الإقطاعية، والزعامة الجنبلاطية، وخرج من المجتمع الحلزوني الحابس عليه قوقعةً يشدّها في ضيقٍ عن الاتساع والانكفاء عن النّور، كما ذكر في مقدّمة "ميثاق الحزب 1961"، ليحمل ريشةً يخطّ بها مجموعة اختباراتٍ وتجاربَ، وتمرّسٍ بالواقع الاجتماعي والإنساني والإقليمي، والعلمي، واضعاً زبدة تفكيره، هو ورفاقه المؤسّسين، وهي مجموعة مستمّدات عقلية، ومعطيات شخصية، سابكاً فوقها نزعاته الصافية نحو الخير والمحبة والجمال.

وشُكّل الحزب في بدايته من نواةٍ صغيرة انتدبت نفسها لنشر عقيدته، ساعيةً إلى إعداد الجماعات إعداداً يوفّر لها الوسائل، وينظّمها في اتّجاه الغاية التي تعتبرها الغاية الأرفع، وبلقاء جماهيرها، قاصداً اللقاء في صميم المعترك الذي ينشد الإثمَ باستمرار.

ناضل كمال جنبلاط لأجل تحقيق الدولة المدنية. دولة العدالة الاجتماعية. دولةٌ علمانية تؤمن أنّ الدين للّه والحكم للشعب. ووضع شروطاً يجب أن يتحلّى بها المسؤول والحاكم، واختصرها بالغاية الأساسية التي آمن بها، وهي أنّ الإنسان هو الغاية، معتبراً أنّ جميع المؤسّسات، مهما كان نوعها، وصنفها، وغايتها، ومنفعتها، لا تكون ذات جدوى إلّا إذا كانت تخدم الغاية الحقيقية التي توخّاها كمال جنبلاط، وهي الإنسان.

كان ثائراً مدافعاً عن حقوق العمال والفلاحين، داعماً قضايا الفقراء والمحتاجين، يحمل مِعوله ويمضي ليحطّم جدران الطائفية التي كانت، وما تزال، الحجر العاثر في تقدّم هذا المجتمع. ناضلَ لأجل تحقيق مجتمع الكفاية والعدل، محذراً من الرأسمالية الوطنية والأجنبية، والتي كانت تنهش البلاد عبر البنوك والمصارف الغربية، داعياً إلى إنشاء المصرف المركزي الوطني لمراقبتها، كما وضع نظاماً يقنّن تماديها في إفقار النّاس.

لقد حقّق كمال جنبلاط بفكره الإنساني الثائر، حالةً من الوعي لو تلقّفتها الطبقة السياسية، التي كانت حاكمةً في السبعينات، لكان لبنان اليوم سويسرا الشرق عن حقٍ وحقيق، ولكان للإنسان اللبناني أن يعيش حياة البحبوحة في كل الميادين الاقتصادية، والعلمية، والثقافية.

لكن الطبقة السياسية في ذلك الوقت، وصراعات الدول الكبرى، والأقطاب الإقليميين، جعلت من لبنان ساحةً لتصفية حساباتهم، وتصفية القضية الفلسطينية، وجعلت لبنان الكيان الوطني المستقل في مهّب الرّيح، وحولته إلى محافظة من محافظات الأسد يسرحُ ويمرحُ فيها كما يشاء، ويرسل الرسائل الدولية والإقليمية عبره لمن يشاء. وأدخل الحزب في لعبة الصراع المسلّح لتعميق الانقسام، ولهدم ما بناه من فكرٍ تقدمي علماني كان يمكن له أن يعّم بين جيل الشباب اللبناني، وبالتالي أن يشكّل خطراً على الأنظمة الرجعية والتقليدية، التي كانت سائدةً في دول الجوار.

لكن للأفكار أجنحة تعبرُ جدران الطائفية، وتكسر قيود المذهبية، ولا تعترف بحدود المناطقية، ولو أنها في فترةٍ قد قُيّدت، وزُجرَت، وسُجنت، ومُنعت من التحليق، لكنها بقيت بقيادة الرئيس وليد جنبلاط تختمرُ زاداً في غذاء الرّوح، وفكراً في خمائر العقل النابض المنتفض على قيود سلطة الوصاية وأتباعها، إلى أن أتى يوم الانتفاضة الكبرى في العام 2005، يقلبُ كل ما سُميّ بالمسلّمات، وبصوته المدّوي في ساحات الحرية أسقط وليد جنبلاط سلطة الوصايةِ وأتباعها.

وعادَ الفكرُ ليغرّد من جديد في حوارات الشباب، وحقوقهم المطلبية، ويصدح متعالياً يقرع آذان المسؤولين، لكن دون جدوى، إلى أن جاء 17 تشرين لتمضيَ الجماهير جميعاً إلى السّاحات من جديد، حاملةً شعاراتها المطلبية. ومَن قرأ تلك الشعارات عرف فوراً أنها كلمات، ومبادئ، وشعارات كمال جنبلاط، والحزب التقدمي الاشتراكي.

حضرة المعلّم. يا نوراً وُلدَ من نور. يا طيفاً نابضاً يحمل التغيير في كل زمن. يا تاريخاً حاضراً فينا.

سلامٌ عليكَ يوم وُلِدتَ، ويوم استشهدتَ، ويوم بُعِثت حياً فينا.