Advertise here

من الإيديولوجيا إلى المقاولات

14 كانون الثاني 2019 14:37:42

الحوار الذي جرى بين كيسنجر وماوتسي تونغ في أوائل السبعينيات يكشف "الخيانة" للإيديولوجيا. أي العنصر اللا إيديولوجي لدى كبار الإيديولوجيين.
                                المهنة الآثمة – جهاد الزين  

عندما وضعت حرب فيتنام أوزارها بهزيمة الآلة الحربية الأميركية الجبارة، تغيرت الاستراتيجية الأميركية واتخذت منحى تجنُّبِ الحروب المباشرة قدر الإمكان، بعد تجربة آسيوية مرة. فانتقل كيسنجر بسياستها إلى الانفتاح على الخصوم الإيديولوجيين، من غير رجوع عن النزوع إلى الهيمنة والسيطرة، ليكون الاستثمار السياسي والاقتصادي في تشجيع الحروب البديلة والقتال بالوساطة التي أفضت إلى هزيمة الاتحاد السوفييتي في حرب عصابات أفغانية كانت أقل كفاءة من "الفيتكونغ"، لكنها أدمت الطيران السوفييتي، ومشاةَ الجيش الأحمر الذي استُدْرِجَ إلى مؤازرة "الثورات الماركسية" فوقع في ما وقعت فيه أميركا من قبل.
وإذا كان النظام الأميركي المرن قد تمكَّنَ من تحمُّل الهزائم والنكسات، وأحْسَنَ امتصاصَها وتحويلها إلى منصات عبور لسياسات جديدة، فإنَّ جمود النظام التوتاليتاري، أدّى إلى تكسيره عند فتح أولِ ثغرة مهمة في ستاره الحديدي.
وكان إنشاء دولة إسرائيل تجربةً ناجحة لتعطيل التطور الديمقراطي في البلدان العربية، بعد انهيار الخلافة العثمانية، ولإحباط مشاريع الحداثة والتنمية؛ كما كان إشارةً لانطلاق حروب عربية داخلية متوالدة، وانقلابات نابية عن سياق الاستقرار، كان أولها انقلاب حسني الزعيم الذي دبّرته الاستخبارات المركزية الأميركية، فَسُفِكَتْ دماء كثيرة، وأُهَريقَ نفط غزير، واسُتْهلِكَت أجيال متعاقبة، وضاعت الفرص تلو الفرص، بذريعة استرداد فلسطين... إلى أن أصبح العَلَمُ الإسرائيلي يخفق بلا وجل، في عديد من دول العرب، بعد أن تراجعت العداوة لإسرائيل، إلى حد التصالح... أو التحالف!!!؟
وفي وقت ما، عندما كانت الفورة النفطية في دول الخليج وفي العراق تُنبئُ بثورة في التنمية والحداثة والعمران واللحاق بالعصر، شعرت الولايات المتحدة بأن كتلة نقدية جبارة بدأت تتكون خارج سيطرتها، فوجَّهت سياستها إلى تلك الدول- من موقع الصداقة "التاريخية" الافتراضية- لأجل تبديد تلك الكتلة، بعد أن ذاقت سابقًا مرارة قطع الإمداد النفطي عند اندلاع حرب أكتوبر.
روى لي السيِّدُ الكحيمي، سفير السعودية السابق في لبنان، أثناء زيارته منزل توفيق سلطان في طرابلس أن أول احتياطي نقدي مرموق كوَّنته المملكة، أُنْفِقَ عن بكرةِ دولاراتِه في الحرب التي نشبت بين العراق والجمهورية الإسلامية الناشئة في إيران؛ فلمـّا تكوَّنَت كتلة أخرى لا تقل شأناً عن الأولى، تبددت في حرب تحرير الكويت، وهذا بالذات ما جعلني - في هذا المقال - أعودُ إلى الدور الإيراني في الشرق الأوسط، وفي الخليج على التحديد قبل قيام ثورة الخميني... وبعدها. 
لقد قامت إيران الشاهنشاهية بدور الشرطي الراعي لمصالح الغرب في الخليج، عقب الانقلاب على حكم الدكتور محمد مصدق، وزَجِّه في السجن، وإعدامِ وزير خارجيته الدكتور حسين فاطمي لأنه تجرأ على تأميم النفط الإيراني؛ ومن اللافت أن حكم الدكتور مصدق قام على تفاهم فريد بينه وبين آية الله كاشاني وحزب "تودة" الشيوعي، لكنَّ الانقلاب الأميركي دمر الاحتمالات الواعدة من ذلك التحالف. كان للشاه جيش قوي وحديث، أهَّلَه لأن تكون له كلمة نافذة على دول الجوار، ناهيكم عن فعالية الاقتصاد الإيراني النشط فيها. لكن القوة العسكرية لم تكن كافية للتأثير في المجرى السياسي العربي، فقد كان الشاه منبوذًا من الشعب العربي المؤيد بمعظمه للسياسة الناصرية القائمة على الدعوة القومية ، لأن إيران كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل. 
وإذا كان ظاهر الحكم الإمبراطوري ذا طابع حداثي يحاول محاكاة النمط الغربي، إلا أنه في حقيقته كان استبداديًّا ومكروهًا من الطبقات الفقيرة، ومن رجال الدين الذين استطاعوا بما لهم من خبرة تنظيمية، وتأثير رعائي، أن يكتلوا حول دعوتهم أكثرية غالبة من الشعب الإيراني، كما استطاعوا أن يكسبوا تعاطفًا عربيًّا واحترامًاغربيًّا، فكان أن انتقل الإمام الخميني من باريس إلى طهران في لحظة اندهش لها العالم! وسرعان ما تبين أن حدود دعوته تتخطى الدولة إلى ما عداها في المحيط الإسلامي، ولذلك أطلق عليها اسم الثورة الإسلامية، الأمر الذي أثار توجس الحكام العرب من امتدادها، فشن صدام حسين حربه على إيران، بعد أن كان قد اطمأن سابقًا إلى التسوية التي عقدها مع الشاه في الجزائر.
واحْتُضِنَ الرئيس صدام حسين من قبل الخليج، كما آزره الملك حسين، ودامت تلك الحرب ثماني سنوات بكلفة بشرية واقتصادية باهظة إلى أن تم الاتفاق على وقفها، وبات صدام يستشعر بالقوة المهيمنة، فغدا "حلفاؤه" في حالة ترقب وريبة؛ وبالفعل، لم يطل به الأمر حتى احتلَّ الكويت، بعدما "استنتج" من السفيرة " إبريل غلاسبي" تفهمًا لنيته تلك...
وكان ما كان مما دفع العرب فيه أفدح الأثمان، فعاد الجيش العراقي من الكويت مذلولًا ممزقًا بأعاصيرِ "عاصفة الصحراء"، وصارَ العراق الغني، في حالة فاقة يستجدي معها دواء الأطفال، ويشتري رغيف الخبز الواحد بكيس من الدنانير المتهالكة.
ورغم هذا، كان لا بد من ابتكار أكذوبة سلاح الدمار الشامل، لكي يحتل جورج بوش العراق، فيحُلَّ الجيش، ويدمر مقومات الدولة، ويعدم صدام، ثم يأتي بعده أوباما، فينسحب لكي يصبح العراق بذلك مدى حيويًّا للدولة الإيرانية التي تصفها أميركا بأنها راعية الإرهاب في العالم، فيما تصف الثورة الإسلامية أميركا بالشيطان الأكبر.
هنا علينا أن نتوقف قليلاً عند بدء امتداد "الهلال الشيعي" الذي أشار إليه ملك الأردن، لنرى أن هذا الامتداد كان يتم في ظل تنديد أميركي، وفرض عقوبات على إيران تُقَوِّضُ إمكانية قيام دولة ذات اقتصاد كبير، وتخلق لها معضلة يعجز معها الوضع الداخلي عن رفد التوسع الخارجي بالدعم اللازم؛ وعلى هذا فقد رأينا كيف اسْتُنْزِفَ النقد الإيراني من أجل دعم النقد السوري، وكيف كانت تنشأ بين الحين والحين احتجاجات شعبية ذات دلالات مهمة من سوء الحالة الاقتصادية في إيران. فلا الهلالُ تمَّ بدرًا ولا أدركَه المحاق، ولا السّماءُ أمِنَتْ لرؤية نوره الذي تستريب منه منذ أربعة عشرَ قرنًا. 
لقد قبل أوباما بدور إيراني مفصلي في كل من العراق وسوريا، بعد أن أَنِسَتْ سياسته إلى "استقرار" افتراضي يقوم بالشراكة مع النمط التركي الإسلامي، والإخوان المسلمين في مصر، وأبرم الاتفاق النووي، وبدأ بالإفراج عن الأرصدة المجمدة، ولكن العسل لم يدم شهره طويلاً، فسرعان ما عادت المؤسسة الأميركية العميقة إلى تعقيد الأمور من خلال استغلالِ سقوط الموصل لإسقاط المالكي كما قالَ أوباما نفسُه، والاستثمار في المنظماتِ الإرهابية، ومن خلالِ عقوبات أكثر شراسة، لا تردع التوسع الإيراني، ولكنها تضع إيران ودول الخليج، واستطراداً الدول العربية في مأزق لا يملكون له حلًّا ولا حسمًا، بحيث باتت قَدَما إيران اللتان توغلتا عميقًا خارج حدودها، مثقلتين ومقصرتين عن دعم الذراعين الطويلتين والقبضتين القويتين، كما اضطرت إلى الدخول في شراكات مع جهات متعددة الجنسيات أقل تورطًا منها، وأكثر مرونة، وأوفر إمكانيات، إذ هي في العراق شريكة واقعية على الأقل مع الولايات المتحدة الأميركية، التي يزور رئيسها بغداد، بلا دعوة أو بروتوكول، كأنما يتجول في " كامب ديفيد".وفي سوريا هي شريكة بتفاهم الحد الأدنى مع تركيا، وشريكة بحصة متضائلة مع روسيا الجديدة، إذ يقوم بوتين بدور المرشد الأعلى للسياسة الشرق أوسطية. وفي اليمن، التي أُنْفِقَ فيها ما يكفي من ثمن الأسلحة التي اشترتها دول التحالف، فإن الأمم المتحدة، برعاية "الدول العظمى" تفتش عن حل تُحَجِّمُ فيه النفوذ الإيراني، من غير أن تزيل القلق الخليجي. أما دول الخليج، فإنني أكتفي بالاشارة إلى خطاب "ترامب" الذي وجهه إلى الملك قائلاً:" أيها الملك عليك أن تدفع" بصفاقة غير مسبوقة، إضافة إلى مجلس الشيوخ الأميركي، الذي عودنا على التصفيق وقوفًا عشرات المرات لمجرم الحرب "نتنياهو"، لكنه يستبق التحقيقات ويتهم بالإجماع ولي العهد السعودي بقتل الصحافي جمال خاشقجي، وذلك استمرارًا في الابتزاز اللامتناهي الذي يرتهن الثروة الخليجية بذريعة حمايتها من التمدد الإيراني.
لقد استرسلت كثيرًا في استدعاء التاريخ - من غير اختصاص- لأنه لا يشكل الماضي فقط، بل هو الحاضر والمستقبل أيضًا الذي ستحار فيه الألباب، إذ كيف يسمح "الحليف الروسي" بممرات جوية آمنة ودائمة للطيرن الاسرائيلي، من أجلِ ضرب الجيش السوري، والحرس الإيراني، وقوات حزب الله اللبناني، من غير أن يخسر جناحًا واحدًا من طائرة، ومع هذا "يتفهم" مسؤولية إسرائيل عن إسقاط الطائرة الروسية، تحت ذريعة "سوء التفاهم"؟
أردت مما تقدم أن أشير إلى أن منطقة الشرق الاوسط، التي اخترقتها إسرائيل منذ ثمانين عامًا تتحول إلى مشاعات، يتوه أهلها في الشتات وبين المضارب، وتتوالد حروبها بحجة الدفاع عن المبادئِ والوجود، وتقومُ مواردها بدور ثابتٍ علنيٍّ هادئٍ مستمر، ومتفاقم، هو تغذية الخزانة الأميركية، في ظل احتدام صراع ضفتي الخليج بين عقل محافظ قلق، وآخرَ طَموحٍ جموح.
لست أدري إن كان مستر "ترامب" يعرف هرون الرشيد، لكنني أحسبُ أنَّ لسانَ حاله يقول "للحروب الصغيرة" التي يرعاها: "اذهبي ودمِّري أنّى شئتِ... فإن خراجك سيعود إليّ".
ومن لا يجد تفسيرًا لقرار الانسحاب من سوريا، فجواب ذلك، أن الصراع الدولي الذي كان في السابق إيديولوجيًّا، تحوَّل الآنَ إلى تنافس مقاولين يملك كبارُهم من قلة الحياء الإيديولوجي ما يكفي لعقد التفاهمات الاستراتيجية، كما في الشرق الأوسط بما هو مقاولة يتبادل فيها اللاعبون المواقع، ويبدّلون شركاء الباطن ويستبدلون الوكلاء المحليين، كلما دعت الحاجة.
أعتذر في الختام إنْ لم يتسع المقال للحديث عن الأزمة اللبنانية، ولكنَّ في طياته ما يفسرها من غير عناء، فهي ليست  سوى مقاولة فرعية، تلهو على سطحها الرخو، إدارة يابسة، لا تدرك عمق التشابك الجيولوجي مع خطوط الزلازل المتوالية.

*وزير سابق