Advertise here

المقاربات الإلغائية والانتفاضات الشعبية

01 كانون الأول 2019 09:09:07

 

متابعة أنشطة الثورات الشعبية التي تحصل في أكثر من مكان في العالم، تفرض الوقوف عند بعض الاستنتاجات الثقافية، والتي بدورها تعتبر مؤشراً على فشل المقاربات الإلغائية التي يتم اعتمادها في بعض الأماكن لمواجهة تحركات المواطنين. والتدرُّج في خطوات المواجهة عند قوى السلطة، يعطي مصداقية لأحقية الحراك الشعبي أكثر مما يُفسِد أهدافه، ذلك أن السلطة التي تتهِم التظاهرات في بدايتها بأنها نشاط مُحق ومحدود لتحقيق مطلب معيشي، هي ذاتها التي تعود في اليوم التالي لتتهم هؤلاء بالتآمر مع السفارات الأجنبية، وتتعامل معها في الأيام التي تلي على أنها مؤامرة إنقلابية تستهدف تقويض الدولة.

والتصرفات القمعية عند السلطة وتجاهل مطالب الثوار، يستخدمها هؤلاء وقوداً للاستمرار في إيقاد الشُعلة التي قد تخسر مع الوقت بعضاً من ذخيرتها الملتهبة. هذا على أقل تقدير ما حصل في هونج كونج وفي تشيلي، وعلى شاكلة أوضح يمكن إدراج ما جرى في لبنان والعراق ضمن هذا السياق، برغم الاختلاف الموضوعي في خصائص كل من هذه التحركات، من حيث الأهداف، ومن حيث الدوافع.
من الاستنتاجات الواضحة التي دلَّلت عليها الأحداث الراهنة، أن ثقافة الإلغائية تتحكَّم في غالبية الذين يتولون السلطة في تلك الدول، وهؤلاء تعاملوا مع الحراك الشعبي باستخفافٍ منقطع النظير، وأعتبروه مجرَّد زوبعة في فنجان. تشخيص مستوى تنامي المشاعر الشعبية من أبرز معالم الفكر السياسي، وهي شرط من شروط الكفاءة التي تؤهِّل القائد لتولي المهام المتقدمة. ومن الملاحظ أن بعض الإخفاقات التي أدت الى اندلاع الثورات الشعبية، كانت بسبب جهل القائد للمزاج الشعبي العام، أو بسبب تجاهل القائد للمطالب التي يتفق عليها أغلبية المواطنين، وقد تكون بعض أهم هذه المطالب ذات أبعاد قومية، كما هو عليه الحال في هونج كونج، وعلى درجة أقل في العراق، وقد تكون المطالب ذات أبعاد ثقافية ومعيشية وتتعلق بنمطية الحكم، كما هو عليه الحال في لبنان، وعلى درجة أقل في العراق أيضاً. يمكن إدراج بعض الأمثال على الانفصام الفكري - أو عن ممارسة الشيء ونقيضه في آن - في أكثر من دولة:
في لبنان وصل الحكم الحالي إلى سدَّة المسؤولية على قاعدة أنه يمثل الأكثرية الشعبية وهي مصدر السلطات، حتى يوم انتخاب الرئيس ذهب إلى القصر الرئاسي في بعبدا واستقبل جمهور المؤيدين، لأنه كان قد قال: إن مجلس النواب الذي انتخبه غير شرعي كون المجلس مدد لنفسه لولاية كاملة. والرئيس ذاته قال نقيض ذلك واعتبر أن الثورة العارمة التي حصلت لا يمكن لها أن تُغير الحكم.
وفي العراق كان بعض رموز الحقبة الراهنة يدينون تعرُّض نظام صدام حسين للمتظاهرين ضده، بينما يتعاملون اليوم مع المنتفضين ضدهم بذات الطريقة تقريباً.
يمكن ملاحظة مجموعة من الرؤى بمناسبة التدقيق في مشهد الثورات الراهنة:
أولاً: مدى إدراك الشعب لخلفيات وبواطن أهل الحكم، من جراء انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن بعض الإعلام المُوجه. وبالتالي فإن نظرية «جوبلز» التي ربما أفادت التسلُّط النازي في النصف الأول من القرن الماضي، لم تعُد تصلُح ليومنا هذا.
ثانياً: تراجع تأثير اعتماد الحكم على أساطير وأوهام تآمرية بمناسبة مواجهته الشرسة للحراك الشعبي، ذلك أن بعض الأساليب البدائية لم تعُد تنطلي على الشعب في يومنا هذا، لا سيما على فئات الشباب والشابات منهم.
ثالثاً: لا بد من الاعتراف بأن المقاربات الإلغائية المُحصَّنة بمثولوجيا غير واقعية أصبحت وصفة فاشلة لا تشفي من مرض الاستبداد.